إذا كان المكتوب يقرأ من عنوانه كما يقولون، فإن عناوين الكثير من الأخبار والحوادث والقضايا التي تنشرها صحافتنا المحلية تستدعي أقصى درجات الانتباه والتأمل والتحليل على نحو أو آخر، كما أنها وقبل كل شيء تستوجب العمل بمنتهى الجدية على تحقيق كل ما يفرض إحقاق الحق ويحصن المجتمع بالعدالة والقانون.
ليس عسيرا أن نتوقف أمام عينة من هذه العناوين التي منها ما يرفع لدينا جرعة الغمّ والإحباط أو على الأقل يجعلنا مرهقين بالتساؤلات القلقة، ودعونا وقبل أن نمضي قدماً في هذا المجال أن نوضح أمرين:
الأول أن هذه العينة من العناوين تحمل في ثناياها وبالضرورة بذور خلل مسكوت عنه يشين المرحلة الراهنة، ويؤشر بأن ساعة الحسم حيال الكثير من الأوضاع والممارسات الخاطئة لم يحن أوانها بعد وللأسف الشديد.
أما الأمر الثاني، فهو أننا انتظرنا من مسؤول ما، أو جهة رسمية ما، أن ينفي أو يكذب، أو يوضح حقيقة هذا الذي نشر بل لم نسمع أو نقرأ صدى من أي نوع من جانب من يفترض انه المعني بما نشر، لا بالتصويب ولا بالتحقيق ولا حتى بالإحالة إلى من يهمه الأمر، ولأن لا أحد فعل ذلك حتى الآن على الأقل فلا يجب أن نلام إذا اعتبرنا أن ما نشر كان صحيحاً.
تعالوا نمعن وندقق في هذه العينة من العناوين التي نشرت في صحافتنا في الآونة الأخيرة التي تبعث على الدهشة والتساؤل، مع تنويه بأنه من حق كل واحد منا أن تكون له قراءته الخاصة، وفهمه الخاص، ورؤيته الخاصة حيال هذه العناوين ومضامينها:
ـ ديوان الرقابة يكشف ” فساداً” بالبلديات…!!
ـ متنفذون استولوا على ١١ مقبرة كبيرة تابعة إلى ١١ منطقة في المنطقة الشمالية ” تصريح لرئيس مجلس بلدي الشمالية”.
ـ متنفذ يحول مقبرتين إلى قسائم سكنية بكرانة تستفيد منها ٤ قرى ” تصريح للنائب سيد مكي الوداعي”.
ـ متنفذون يستولون على ساحل مساحته ١٤١ ألف قدم بعراد مخصص للمنفعة العامة.
ـ متنفذون ومسؤولون كبار يقطعون أرزاق سواق الأجرة “تصريح للنائب إبراهيم بوصندل”.
ـ متنفذون يستولون على ٧٣ أرضا في سار ” تصريح لرئيس مجلس بلدي الشمالي”.
عينة أخرى من العناوين التي فيها أيضا من بواعث الغيظ الشيء الكثير، نعرض بعضها لعلنا بذلك نهتدي إلى ما يكمل الصورة:
ـ مناشدة ولي العهد وقف نزيف الأموال في طيران الخليج.
ـ جهات نافذة تلغي توزيع إسكان النويدرات.
ـ بتلكو ترفض الانصياع لحكم القانون وعودة المفصولين.
ـ تقديم فندق للنيابة العامة منع مفتشاً من أداء مهامه.
ـ غازات المصانع والنفايات دمرت ساحل المعامير “عضو مجلس بلدي الوسطى وليد هجرس”.
تلك عينة، مجرد عينة من العناوين، ولا ينبغي أن نلام إذا اعتقدنا بأن هذه العينة تعبر عن خطأ يمكن أن نستخلص منه ما ينبغي أن يوضع على محمل الجد، مع إدراكنا أنه لا يوجد شيء أسوأ من الإحساس بان هناك من لا يريد لهذا الخطأ أن يصوّب، ولا للقانون أن يفعّل ولا للعدالة أن تأخذ مجراها.
لذلك يبقى رفع شأن دولة القانون، أو تفعيل سيادة القانون أو حكم القانون هو العنوان البارز، والملف الأبرز، لأنه بالقانون تنظم الحياة، وتمنح الحقوق، وتمنع المظالم، وتبنى ركائز التنمية و الرقي وهكذا لو كان القانون مطبقاً بحسم ومباشرة ودون تفرقة على الجميع دون استثناء لما بلغنا أوضاعا جعلتنا نتخلف عما ينبغي لنا أن نكونه، ولما تعمقت الخلافات والتباينات والتجاوزات وارتفعت وتيرة الهواجس ووجدنا من ظهر ليستولي على حقوق الآخرين، ولما تراكمت الهنـّات هنا وهناك وهنالك، ولما ظهر من يتحدى أحكام القضاء ويعطلها، ولما ظهر كائن من كان ليتحدى شرطي مرور ويقول له: ألا تعرف من أكون وابن من أكون في رسالة لها دلالتها !!!.
لو كان القانون مطبقاً بحسم وعلى الجميع في مواقع العمل والإنتاج لما ظهر في الشارع مسؤول أو موظف في توقيت الدوام، ولما برزت مظاهر الفوضى والتسيب والإخلال بواجبات الوظيفة العامة، ولما أصبحت الرشوة وان استظلت بعبارة “الإكرامية” أو “الهدية” طقساً يومياً لا يرى كثير من الناس بديلاً عنه لانجاز المعاملات والمصالح ناهيك عن تحصيل الحقوق.
لو كان القانون مطبقاً بحسم وعلى الجميع لما سمح بان يحصل على وظيفة من هو ليس مؤهلاً لها في وجود من هو أفضل وأكفأ وأحق، ولما سمح للواسطة والمحسوبية أن تكون باباً لكثير من الخرافات والتجاوزات، ولما ظهر لنا بعض من عينوا في “الوظائف الكبيرة” ليشعرونا بأنهم “مسنودين” ليتمتعوا بحصانة تغنيهم عن أي مساءلة أو تبعات الفشل في تحمل أعباء المسؤولية، بل ولما امتلأت الإدارة عندنا بالتفضيلات الشخصية التي استبعدت الاعتبارات الموضوعية وأفسدت الكثير من القواعد الإجرائية، ولما وقعنا في براثن البيروقراطية.
لو طبق القانون بحسم ومباشرة على الجميع لما حصل على وحدة سكنية أو شقة من ليس له أحقية فيها، بينما أصحاب الحاجة الفعليين لا يجدون مأوى وتصدمهم كل يوم إعلانات الشقق الفاخرة وفيلات الشواطئ الخلابة بأرقامها الفلكية التي يستعصي على المواطن المغلوب على أمره أن يستوعبها.
لو كان القانون مطبقاً بحسم وعلى الجميع دون استثناء لما سمح للبعض من أصحاب “المقاصد والمصالح والنفوذ” أن يتخطوا القانون ويمسحوا آثام أيديهم لتصبح نظيفة بالقانون، أو يجعلوا من القانون مطية لتنفيذ مآربهم.
لو كان القانون مطبقاً وبحسم على الجميع لما ظهرت اعتراضات هنا واحتجاجات وهالات غضب هناك، ولما عانى الضعفاء الأمرين للوصول إلى حقوقهم، ولما اهتزت حقوق المواطن أصلاً.
لو كان القانون مطبقاً وبحسم على الجميع لاستطاع المجتمع أن يحاسب كل مسؤول مقصر أو مهمل أو فاسد، ولما استشعرنا أننا نعيش في ظل محن تبدو للعيان مستعصية على الحلول، ولما كانت هناك ضبابية فيما يخص ضبط مالية الدولة وجوهر القضايا المستقبلية.
أخيراً وليس آخراً لو كان القانون مطبقاً وبحسم على الجميع وساري مفعوله وأحكامه على الجميع دون استثناء لما انتهك البعض قيم العدالة والمساواة، ولأصبح بمقدورنا حقاً أن نسير بثبات في عمليات التصدي للفساد في كل مفاصل العمل اليومية والذي يندس في كل ركن يختفي فيه القانون.
بقي أن نقول إن دولة القانون يعني أن الدولة تحصن نفسها بالقانون، تمارس القانون في كل تصرفاتها السياسية والقضائية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والأخلاقية وتخضع هذه التصرفات لقواعد ثابتة ومستقرة لجهة واجباتها أو لجهة حقوق المواطنين فيها، وفي دولة القانون يحصن المواطن بنصوص وأحكام القانون ويحق لكل مواطن أن يطالب الدولة باحترام تلك القواعد والاحتكام عند خرقها إلى القضاء الذي في دولة القانون هو قضاء مستقل بكل معنى الاستقلالية وهو بذلك دعامة أساسية للدولة والسلطة والمواطن التي توفر له دولة القانون كل حقوقه الأساسية غير القابلة للتجزئة والإنقاص والتشويه.
الأيام 18 يوليو 2008