المنشور

هتلر وفرانكو في‮ ‬مقصورة المباراة

كلما عبرنا من قرن إلى آخر نجد جنون الكرة ومحبتها وعشقها‮ ‬يزداد دون حدود،‮ ‬بل وتزداد موجة الموضات والاحتفائية المحمومة بكل مباراة،‮ ‬وتتصاعد تلك الحالة مع الدورات الرياضية والمنافسات الحادة،‮ ‬ويفرح المضاربون في‮ ‬السوق السوداء بموسم البيع،‮ ‬حيث تصل أسعار التذاكر إلى حالة الجنون لمجرد استعداد رجل عادي‮ ‬الدخل شراء تذكرة المباراة النهائية لكي‮ ‬يتذكر طوال حياته انه كان‮ »‬حاضرا‮« ‬وعاش معركتها ولوحاتها الفنية وسمع الأغاني‮ ‬والشتائم وكل مفردات العصبية والتشنج والتوتر،‮ ‬واستعداد كل واحد للصدام والمشاحنة إذا ما تم استفزازه وهو في‮ ‬حالة الهزيمة والانكسار‮.‬
وتتسع دائرة جنون القرن الحادي‮ ‬والعشرين ظاهرة تصاعد حضور النساء في‮ ‬المجتمعات المختلطة،‮ ‬بل وانكسارها وانكماشها التدريجي‮ ‬في‮ ‬المجتمعات المحافظة المغلقة،‮ ‬إذ اخترقن النساء حلقة التابو فذهبن إلى حلبة المباريات،‮ ‬وان كن قليلات العدد في‮ ‬مجتمع مازال ذكوريا،‮ ‬ولكن الجنون والموضة المشتركة بين النساء والرجال في‮ ‬مجتمع مختلط هو ذلك التفنن في‮ ‬الماكياج والملابس وكل ما‮ ‬يمكن تخيله فلا احد‮ ‬يهتم بساعة الجنون،‮ ‬فالجميع ذاهب لمعركة جميلة وكرنفال رياضي‮ ‬وكل شيء فيها محتمل إذ تختلط الدموع بالفرح والزعيق والصراخ بالتوتر وبكل ألوان الغضب والعنفوان إلى حد الصدام العنيف دون خوف أو تردد من شرطة مدججة،‮ ‬فعندما‮ ‬يغضب المنهزمون فلا شيء‮ ‬يردعهم،‮ ‬وعندما‮ ‬يثور الهستيريون فلا‮ ‬يمكن إرجاعهم عن دائرة النار فقد فقدوا السيطرة على مشاعرهم وعواطفهم المجروحة‮. ‬لهذا من الأفضل تركهم في‮ ‬التنفيس بأقل ما‮ ‬يمكن من الفعل وتجنيبهم الدخول في‮ ‬حلبة العنف والدم‮. ‬
أما الجنون الآخر والموضة المتصاعدة هو اهتمام رجال الأعمال بصورة اكبر بتوسيع حلقة‮ »‬البزنس‮« ‬وتصاعد أسعار اللاعبين والمضاربة بهم خفية،‮ ‬فمن جهة‮ ‬يقدم سمسار تسعيرة عن طريق مندوبه ثم‮ ‬يذهب آخر من نفس المافيا ويرفع السعر،‮ ‬فإذا بأندية أخرى تسعى محاولة وبسرعة لاختطاف ذلك اللاعب والتوقيع معه بسرعة وحجزه قبل أن‮ ‬يصطاده طرائد البزنس المقنّعين بلعبة رفع الأسعار مما‮ ‬يجعل النادي‮ ‬مالك‮ »‬العبد الجديد‮« ‬مضاربا جيدا في‮ ‬جني‮ ‬المزيد من الربح‮.‬
‮ ‬كما‮ ‬يتفنن رجال الأعمال في‮ ‬الدعاية والإعلان وإنتاج سلع التسويق المتعلقة بالنادي‮ ‬واللاعبين،‮ ‬بحيث‮ ‬غرقت الأمكنة والمحلات بالفانيلات والقبعات وكل ما‮ ‬يمكننا تصوره من فن التسويق وتسليع الإنسان الرياضي‮ ‬والمشجع المهووس،‮ ‬فهناك ضحية دائما‮ ‬يتم استغلاله واستغلال عاطفته واندفاعه اللامحدود وتعلقه بحب لعبة شعبية جذبت معها في‮ ‬العقدين الآخرين كل النخب دون استثناء،‮ ‬فوجدناهم وقد صاروا في‮ ‬عالم الكرة الجزء الحاضر في‮ ‬المنافسات الرياضية الهامة،‮ ‬فباتوا‮ ‬يتحلقون الطاولات ويحجزون أمكنتهم في‮ ‬أغلى الفنادق ويتسامرون في‮ ‬أمسية ساخنة حول من بالإمكان أن‮ ‬يفوز في‮ ‬هذه المباراة ؟ ومن هو الفريق الذي‮ ‬سيصل إلى نهائي‮ ‬الدورة الساخنة ؟
‮ ‬هذا ما جعلني‮ ‬اقلب أوراقي‮ ‬وأتابع الناس وهم‮ ‬يركضون بقوة لمتابعة دوري‮ ‬كأس الأمم الأوروبية مؤخرا،‮ ‬وتخيلت أن الفوهرر هتلر بيننا وصديقه فرانكو حاضرا لحظتها،‮ ‬وكيف كانا‮ ‬يتبادلان التحايا من بعيد،‮ ‬إذ‮ ‬يبعث برقية كل واحد للآخر،‮ ‬متمنيا للنازية والفاشية الانتصار فذلك هو انتصار لشعوبها وقيمها وأفكارها‮.‬
‮ ‬بتلك الروح عادة‮ ‬يدون الساسة رسائلهم ويتمنون لأفكارهم أن تكون سائدة في‮ ‬كل مجال،‮ ‬فالفخر والاعتزاز القومي‮ ‬نعرة وعصبية دائمة لتلك القيادات،‮ ‬بل وصارت لدى قطاع واسع من الناس إلى درجة‮ »‬استملاك‮« ‬مشاعرهم المريضة وأصبحوا مستعدين للتقاتل والصدام مع الطرف المنتصر‮. ‬ما جعل هتلر‮ ‬يحتار هو وصول اسبانيا لنهائي‮ ‬المباراة وقد جلس الفوهرر هادئا قبل صفارة الحكم،‮ ‬وحالما بدأت صفارة الحكم بدأ‮ ‬يتقافز كالفأر فيما اخذ فرانكو‮ ‬يزعق‮ »‬فيفا اسبانيا‮« ‬متناسيا الأفكار المشتركة لقيمهم،‮ ‬ومع كل ضربة اسبانية‮ ‬يفرح فرانكو ويصفر وجه الفوهرر فضاع تواضعه وهدوءه واخذ بعدها‮ ‬يتحسس مسدسه بهدوء مع اقتراب انتهاء موعد المباراة‮. ‬وعندما اخذ اليأس‮ ‬يدخل قلب الفوهرر كان الفرح‮ ‬يشحن قلب فرانكو الاسباني‮ ‬المشحون بحماس الماتادور،‮ ‬فيما هاج الثور داخل كيان هتلر‮. ‬وبدلا من أن‮ ‬يسل فرانكو سيفه ليقتل الثور الهائج،‮ ‬فان اختراق الهدف في‮ ‬مرمى هتلر كان كافيا لجعل الفوهرر‮ ‬يسل مسدسه ويضعه في‮ ‬صدغ‮ ‬فرانكو ويرديه قتيلا،‮ ‬فالهزيمة لألمانيا من أي‮ ‬طرف كان حتى من‮ »‬رفاق الدرب‮« ‬لا‮ ‬يجوز،‮ ‬فألمانيا بلد لا‮ ‬يعرف الهزيمة‮. ‬بعدها اكتشف الجمهور حماقة هتلر وكل مجانين الحرب في‮ ‬ألمانيا فهم عرّضوا البلاد لحربين مدمرتين خسروا فيها منجزاتهم‮. ‬
التعلم من المباراة‮ ‬يجعلنا نتعلم من الحرب،‮ ‬بأن لا احد بإمكانه أن‮ ‬يكون منتصرا دائما،‮ ‬فمن‮ ‬غابوا عن المقصورة في‮ ‬فيينا هذه المرة سيكون آخرون محلهم مستقبلا،‮ ‬المهم أن‮ ‬يتعلم الجميع تجرع الكأس كأس المرارة وكأس الفرح والنشوة العابرة‮. ‬فالماكينة الألمانية هذه المرة أصابها العطب‮ !! ‬فرشاقة الماتادور الاسباني،‮ ‬كانت أسرع واخف من حركة وثقل‮ »‬الثور‮« ‬الألماني‮. ‬

صحيفة الايام
15 يوليو 2008