تَمحورتْ حياة الإنسان في الأزمنة الحديثة في محاولاته المضنية ، غير المجدية ، للخروج من حالة الاستلاب والاغتراب الاجتماعي / الاقتصادي، الذي يعانيه من جراء سرعة وتسارع نمط الحياة العصرية وضغطه المستمر على كاهله من جهة ، والتركز الشديد للأسلوب الإنتاجي النفعيّ ،الذي يحوم كالأفعى حول رقبته وهو يعيش بالضرورة ، في مجتمع بشري تسود فيه المنظومة الاقتصادية/الاجتماعية الرأسمالية المعاصرة ، من جهة أخرى .. الأمر الذي بدا فيه وكأنه مصاب بحالة من الانفصام المرضيّ المزمن ، العصيّ على العلاج ، لدرجة بات فيه أكثر تعاسة من السابق بالرغم من منجزات العلم والترفيه المتوفرة ، حيث أضحت السعادة المرجوة بعيدة المنال ! بل أخذ يتوجس ويشعر أن متوسط عمره اقصر، مقارنة بالأزمنة الأقدم بالرغم من الحقيقة العكسية … صار يحنّ إلى الماضي كحنين الكبير العاجز إلى طفولته الأولى ! ومرد ذلك أن الفرد أصبح مرهونا وسجينا- أكثر من أي وقت مضى- لأمانيه وطموحاته الحياتية ، الضرورية وغير الضرورية ، جاهداً في مسعاه لتحقيق مبتغاه بمختلف السّبل ، السّوية وغير السّوية .. لا فرق بين معدَمٍ يلهث وراء رزقه بشِقّ الأنفس أو مقتدرٍ مصابٍ بالتخمة الزائدة !
هذه كانت مضامين الهواجس والأفكار التي تجسّدت في مقارعات محتوى الكتيب – غير المطبوع- الموزع سلفاً، بين المهتمين فقط ،للمسرحي البحريني الكبير الأستاذ عبد الله السعداوي ، المهموم حتى النخاع ، بالدور المزدوج الاجتماعي/ الجمالي للفن وحسّه الفطري والإنساني العميق بضرورة إحقاق الحق والإنصاف لبني البشر قاطبة.. تجلّت الأمور تلك، في المنتدى المفتوح الذي أقامته أسرة الأدباء والكتاب في البحرين مؤخرا، لمناقشة الجزء الأول من الثلاثي الذي سيصدر في المستقبل القريب.
إسهامات عبدالله السعداوي هذه ، المسمّى ” عيون فانغا العمياء(زرقاء اليمامة) ” ، المستوحاة من مسرحية “السراب” لسعد الله وَنّوس ، تنطلق أساساً من رمزية عودة “عبود الغاوي”(لاحظوا رمزية كلمة الغاوي) من المهجر إلى قريته على هيئة مخَلِّص، ممثلا لرجال الأعمال الجدد للشروع لتنفيذ الخطط الاقتصادية الجديدة للغرب لتطبيقها على منطقتنا في سياق المشاريع الغربية التي نسمع عنها كثيراً! تركزت المقاربة على الآلة الجهنمية التي تطحن المواطن، المسمى “السوق” حيث يصبح كل شيء معرضا للبيع والشراء (سوق نخاسة معاصرة) ولا يستثنى شيء حتى الآدمي نفسه وأفكاره وعوالمه الروحية والمعنوية وجهوده الفنية والإبداعية، المرتكزة على هجمة “العولمة” الملتبسة! معرجاَ في شرحه (السعداوي) على تشخيص الاقتصادي المصري المعتبر “محمود عبدالفضيل”، من حيث مصاحبة ذلك لتسويق نمطٍ جديدٍ لثقافةٍ استهلاكيةٍ سماها (الفضيل)؛ “ثقافة الفساد “، التي تطبّل لها نخبٌ فنية وثقافية جديدة/قديمة ، في خدمة أسيادها ؛ الطبقة الرأسمالية الطفيلية المصرية الجديدة ، كأنموذج بات يحتذى به في المنطقة العربية.
على أن ما يهمنا في هذا الصدد مقاربة الأخ السعداوي نفسه، وتخوفه الشديد من نشر نمط الحياة الغربية الاستهلاكية الشّرهة وخاصة الأنموذج الأمريكي ضمن هذه الهجمة على شتى مجالات حياتنا ، بواسطة قاطرة “الديمقراطية”! تبحر السعداوي قليلا في المسالة من وجهة نظره و بدا كأنه يدعو لنظرية “العودة إلى الطبيعة”، المجلوبة من فكر “الشَّعْبويين” الرافضين-رفضا عبثياً- للمدنية الحديثة! ومن الجدير في هذا السياق ملاحظة أن هذا اللون من الفكر يعاد إنتاجه على الدوام ، منذ أن شهر “سيرفانتس” سيفه لمحاربة طواحين الهواء في نهايات القرون الوسطى للوقوف بوجه المد الرأسمالي الجارف، القادم من شمال قارة أوروبا إلى جنوبها .. كما ترفع اليوم الرجعيات “العروبوية” و”الاسلاموية” السائدة سيوفها الخشبية”البتّارة” لمحاربة الحداثة الغربية و”الامبريالية” !
وبالطبع لا نستطيع في هذه العجالة الشروع في مقارعة نقدية شاملة للأفكار المهمّة التي أوجزها “السعداوي”، سواء فيما يتعلق بعدم تماسك منهجيته التحليليّة أو تحديده للعوامل الخمسة الضرورية لتواجد أية حضارة (الفن/الدين /العلم/المال/العمل). على أن ما يمكن الاستناد إليه كمنطلق مبدئي لحوارٍ منهجيٍّ ومتابعته من قبل بقية الأخوة المعنيّين هو ضرورة اتفاقنا على أن جوهر المسالة المطروحة كان موضوع “الاغتراب”، الذي غاب عن الأذهان في حينه تماما!
على أن محاولة شرح إشكالية مصطلح”الاغتراب” وتطوره عبر القرون تتطلب مجالاً ووقتاً آخرين بجانب أن إيجازه سيفقده الكثير من معانيه الجوهرية. ولكن لابد من إلقاء ضوءٍ خافتٍ وسريعٍ على ما استقرت عليها موضوعة”الاغتراب” الإشكاليّ في الوقت الحاضر ابتداءً من فكرة الاغتراب القديمة (الوجود الفردي) وتجلياتها في العصر الحديث(الوجودية والنفسية) وانتهاء بما وصل إليه فلاسفة القرن العشرين والقرن الحالي.. لعل أهمهم اليوم ، على الإطلاق ؛ الفيلسوف المَجَري المعاصر” إسطفان ميجاروس” (تلميذ جورج لوكاش)الذي كرّس أكثر من مؤلَّف لنظرية “ماركس” في الاغتراب ، المستندة على قمة الفكر الفلسفي الكلاسيكي الألماني وقطبيه البارزين “هيجل” و “فيورباخ”
لعل أكثر المعاني وأقربها إلى الإقناع لمسالة “الاغتراب” هو ما جاء على يد “هيجل” ، الذي عزاه إلى الفرق والصراع بين الفرد(الذات) والآخرين(المجتمع)، واضعاً الظاهرةَ هذه في إطاره التاريخي الصحيح ، الأمر الذي وافقه “ماركس” ضمن التحليل الهيجلي الجدلي للمسالة . ولكنه نقضه، انطلاقا من مادية”فيورباخ”(المادي الميتافيزيقي) على عكس هيجل (المثالي الموضوعي) من منطلق تأويله وتركيزه على عامل “الوعي” الإنساني الحاسم للمسألة.. وذلك لسببين أساسين (حسب ماركس)؛ أولهما أن هذا التحليل ينطلق من الذات الإنسانية وكأن الاغتراب ذاتي المنشأ ، بينما هو في الواقع نتيجة للعامل المادي الموضوعي للوجود. وثانيا أن هيجل يعتبر الفرد (الذات) مسئول عن تحرر نفسه من الاغتراب متكئاً على الإرادة الفردية . بينما ماركس يرى أن الحل موجود في العلاقات الإنتاجية للخيرات المادية ، حيث أن العملية تأخذ لها مجرى تاريخيا طويلا في خضم النضال بُغية التخلص من منظومة قهرية مسؤولة عن الاغتراب واستبداله بمنظومة إنتاجية أخرى ستكون طاردة للاغتراب.
هذا التفسير الجدلي لموضوعنا الشائك”الاغتراب” خضع لتطورات شتى على يد مختلف المدارس الحديثة، العلمية منها وشبه العلمية، متخذا أحيانا منحى فوضوياً وعدمياً على الصعيد الفلسفي ، نذكر منها : اتجاهي الوجودية والتفكيكية وغيرهما. إلا أن الألمعيّ المَجَري المشار إليه ؛ ” إسطفان ميجيروس” استطاع تلمّس الدرب الشاق لبحث المسالة بروح الباحث النزيه ، مكرساً جُلّ وقته الأكاديمي والحياتي لتوضيح هذه المسالة الإشكالية الملتبسة عند خيرة المفكرين ، في أكثر من مؤلَّف لعل أهمها : “مسالة الاغتراب عند ماركس” . ومن المفيد ذكر معلومة هامة للباحث المهتم للأمر، هو قرب إصدار كتاب “ميجيروس” الجديد في الشهر القادم الموسوم بـ ” التحدي التاريخي لزماننا وعبئه المثقل”(الترجمة من عندنا) ، بالتعاون مع المفكر البريطاني المعاصر”جون بيلامي فوستر” .