تأخذني الذكرى إلى نحو ثلاثين عاما إلى الوراء. إلى شارع في منطقة الطريق الجديدة بغربي بيروت لا يتجاوز امتداده مئات من الأمتار، في نهايته يقع مخفر شرطة. كنت أسكن في شقة بالطابق الخامس في عمارة بهذا الشارع المعروف باسم شارع أبو سهل، وهي في الأصل كانت سكناً لرفيقنا عبدالله البنعلي وزوجته أم غسان، منّ الله عليها بالشفاء، وأطفالهما، يوم كانوا أطفالاً، ثم تحول إلى سكن ومقر حزبي للمنفيين من كوادر جبهة التحرير الوطني. والشارع موازٍ تماماً لشارع الفاكهاني الشهير، الذي كان يعج بمكاتب التنظيمات الفلسطينية، وحين كان الطيران الحربي »الإسرائيلي« يقصف الفاكهاني لم تكن قذائفه توفر مباني ز»أبو سهل«. تفصل بين العمارة التي نسكن فيها، والعمارة التي تقيم بها عائلة الشهيدة دلال المغربي عمارة واحدة فقط لا غير، وكثيرا ما رمقت هذه الصبية وهي خارجة أو داخلة من منزلها، دون أن يخطر في ذهني أنها تخبئ خلف صمتها قصة سيرويها التاريخ فيما بعد. ذات صباح وأنا اخرج من العمارة واجهتني على الحيطان صور تلك الصبية التي لم أعرف اسمها إلا حين قرأته مخطوطاً على الملصقات التي غطت الحيطان في الشارع، بما فيها حيطان العمارة التي كانت تخرج منها. كانت ملصقات الشهداء طقساً من طقوس بيروت في ذلك الزمن. وجوه أليفة، جميلة، بعيون ذكية لشبانٍ في ربيع العمر يذهبون إلى الشهادة بملء اختيارهم وإرادتهم. تظل الملصقات على الحيطان حتى يأتي مطر غزير ينال منها حتى البلل الأخير في تعبير جميل للناقد فيصل درّاج في أحد كتبه. ذهلت مما رأيت، فقد كنت سمعت بالأخبار عن العملية البطولية في مدينة حيفا التي قادتها شهيدة فلسطينية اسمها دلال المغربي على رأس مجموعة من اثني عشر فدائياً تسللوا من ساحل صور عبر زورقين مطاطين صغيرين أخذاهم إلى عمق البحر المتوسط قبل أن يواصلوا سباحةً إلى الشاطئ الفلسطيني. لكن ما لم يدر في خلدي أن تكون هذه الشهيدة هي ذات الصبية ابنة التسعة عشر ربيعاً التي تسكن في البناية المجاورة. وما زلت أذكر الساعة التي أحاط فيها المسلحون بالعمارة التي كانت تسكن فيها، يوم أتى القائد الراحل ياسر عرفات لتعزية عائلتها وبمعيته الشهيد أبو جهاد،وستمر سنوات بعد ذلك لنقرأ أن »أبو جهاد« بالذات، هذا العقل الاستراتيجي المخطط والفذ، هو من أعد لتلك العملية البطولية وأشرف عليها من خلال تدريبٍ عسكري وطويل لأفرادها، بمن فيهم دلال، بينها تأهيلهم في دورة ضفادع بشرية. إلى بيروت التي غادرتها قبل نحو أكثر من ثلاثين عاماً نحو فلسطين، ومنها نحو الخلود يعود رفات البطلة التي أطلق أيهود باراك شخصياً الرصاص عليها تشفياً وحقداً.
صحيفة الايام
14 يوليو 2008