أكثر من عام مضى على تقلد نيكولا ساركوزي منصب الرئاسة في فرنسا، اجتهد خلاله في وضع بصمته الخاصة على الجمهورية الفرنسية داخلياً وخارجياً.
فكان وراء صفقة إطلاق سراح الممرضات البلغاريات المتهمات من قبل السلطات الليبية بتلويث الدماء التي نقلت إلى أطفال ليبيين بفيروس الإيدز.
ونجح في إبرام اتفاقات مع بعض البلدان العربية لتوريد التكنولوجيا الفرنسية في إنشاء وإدارة المفاعلات النووية لتوليد الطاقة الكهربائية، إضافة إلى بعض صفقات توريد الأسلحة الفرنسية.
وعلى الصعيد الأوروبي، حاول ساركوزي الظهور بمظهر المبادر والمنقذ لمؤسسة الاتحاد الأوروبي من النزعات الوطنية السيادية التي تتربص بها وتجسدت في رفض الشعبين الفرنسي والهولندي الدستور الأوروبي في الاستفتائين الشعبيين اللذين أجريا عليه في البلدين. فتقدم بمقترح المعاهدة الأوروبية بديلاً للدستور، وتم الحرص في صوغها على وضع السلطات والسيادات المحلية الوطنية في الاعتبار.
ثم قفز قفزة قارية أوروبية متوسطية أخرى، باقتراحه صيغة جديدة للشراكة بين الاتحاد الأوروبي ودول البحر الأبيض المتوسط المجاورة تحت مسمى الشراكة من أجل المتوسط لتحل محل صيغة برشلونة الفاشلة.
وهذا ليس أمرا هينا على الإطلاق، ففي عام واحد وضع الرئيس ساركوزي بلاده في حال حراك سياسي ودبلوماسي نشط على الساحة الدولية، وكأنه بذلك يحاول منافسة الولايات المتحدة في تحركاتها المكوكية عبر العالم ذوداً عن مصالحها القومية ومصالح شركاتها الوطنية، خصوصاً أن هذه التحركات أثمرت بعض النجاحات الجيدة التي ربما أثارت نوعاً من الغيرة لدى بعض أركان الدبلوماسية الأوروبية التي لا تميل إلى توسيع حيز تحركاتها بعيداً عن القارة ‘العجوز’ لاعتمادها معايير حذرة ومحسوبة هي أقرب إلى سياسة ‘الانعزال البديع’ بعيدا عن قوس الأزمات.
ولذلك بدت حركة الرئيس الفرنسي ساركوزي ووزير خارجيته كوشنير باتجاه الخارج، لافتة على نحو ما، على رغم مما عُرف عن السياسة الفرنسية عموما بخصوص نشاطها الملحوظ في القارة الأوروبية، وفي منطقة الشرق الأوسط خصوصاً.
والحال أن الرجل (ساركوزي) ينشد التميز عن أقرانه الرؤساء الفرنسيين السابقين، وأقرانه من الزعماء الأوروبيين الحاليين أيضاً، إذ قدم نفسه للفرنسيين على أنه شخصية التغيير الراديكالي في فرنسا على كل الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية والتعليمية والصحية.
إنه يريد إضفاء الطابع النفعي للرأسمالية الأمريكية على الرأسمالية الفرنسية التي عرفت تقليدياً بطابعها الاجتماعي.
وهذا ما جعله يندفع بصورة أكبر، كسباً للوقت ربما، لاستعجال تنفيذ ما اعتزم تحقيقه من دون إعارة كثير اهتمام لترتباته ولردود الفعل التي يمكن أن يستدعيها.
حتى إذا ما اقترن الاستعجال بالارتجال، وهو ما ميز أداء الرئاسة الفرنسية في سنتها الأولى، فإن الحصاد لن يختلف كثيراً عن أسلوب الفحص بالعينة العشوائية. فعشوائية النتائج وضآلتها قياساً بالجهد المبذول والفعل المصاحب الذي وظف من أجل استحصالها، تصبح أمراً محتَّماً.
فعقود الطاقة التي أطنب الرئيس وحاشيته في التباهي بها، ليست عقوداً نهائية، إذ تؤسس لمرحلة التفاوض الحقيقية على الجوانب الفنية والمالية وحتى التسويقية. وهذه تأخذ عادة وقتاً ليس قصيرا، ناهيك عن احتمال دخول منافسين بعروض أكثر إغراءً يمكن أن تفضي بالعقود الفرنسية المبدئية إلى الإلغاء العملي.
كما أن تصويت الإيرلنديين قبل أيام في الاستفتاء الشعبي ضد معاهدة الاتحاد الأوروبي لا بد أن يعيد توجيه الأضواء ثانية صوب مصير الوحدة السياسية الأوروبية في حدها الأدنى من الدستور، وأن يحرج الرئيس سركوزي باعتباره أحد المخرجين الرئيسيين لفكرة المعاهدة التي أُريد اعتمادها بواسطة الالتفاف على موجب طرحها للاستفتاء الشعبي في الدول الأعضاء (وبالفعل تم إقرارها من قبل 18 دولة عضو في الاتحاد من دون عرضها على الاستفتاء).
وهكذا، فإن الذي لا جدال فيه أن الرئيس ساركوزي رجل تغيير بامتياز. وهو يقدم كل يوم الدليل تلو الدليل على أنه يريد تأكيد قراراته الراديكالية (ومنها قراره الأخير خفض عدد القوات المسلحة الفرنسية عشرة آلاف جندي وضابط وتحويل ميزانيتهم لبندي التكنولوجيا الحربية والمخابرات المضادة للإرهاب النوعي).
هو بالتأكيد ليس نابليون بونابرت ولا حتى تشارلز ديغول أو جورج بومبيدو، لا في الرؤية ولا في الكاريزما، إنما يحاول أن ينحت له صورة مغايرة لصور الساسة الفرنسيين التقليديين، صورة الرئيس الاستثنائي في العصر الفرنسي الراهن، الذي يبغي له إحداث تحول عميق في المجتمع والدولة، تحول يطال الشخصية الفرنسية نفسها.
وهذا تحد كبير لا يقدر عليه سوى الساسة الدهاة الذين يعرفون كيف يشترون الوقت لتمرير خططهم وبرامجهم من دون أن يستدعي ذلك ردات فعل عاصفة تطيح بالفكرة نفسها وبصاحبها من قبل أن تينع الثمرة ويحين وقت قطافها.
ونحسب أن الرئيس الفرنسي لا يبدو أنه يتحسب لردات الفعل هذه، في مجتمع جبل على الانتفاض والثورة.
الوطن 12 يوليو 2008