اعتدنا بعد نهاية كل عام دراسي أن تتركز الأضواء بشكل كثيف وفاقع على الطلبة المتفوقين دراسياً، وتحتفي كل المدارس الثانوية بمختلف أقسامها وتخصصاتها وكل المؤسسات التربوية والتعليمية وغير التربوية والتعليمية وكل الوسائط الإعلامية، بجهودهم وتميزهم وتطلعاتهم، وتزين من أجلهم قاعات الفنادق الفخمة والفارهة بكل الوسائل المخملية لاستقبالهم واستقبال من يرعاهم ويحتفي بهم، وتنشط بهذه المناسبة سوق الورد الطبيعي والصناعي والهدايا والزينة، وتتقاسم بعض الجهات، وبمنافسة محمومة، توزيع المنح والبعثات عليهم، ويحدث -في هذه المناسبة- أن يعاكس ‘الحظ’ بعض الطلبة المتميزين والمتفوقين في مجالات الرياضة والفن، الذين أبرزوا مدارسهم ووطنهم في مناسبات كثيرة وحازوا جوائز وشهادات تقديرية شهد بأهميتها من كان في الحقل التربوي والتعليمي والثقافي والرياضي ومن كان في خارجه، من كان داخل الوطن وخارجه. وفي كثير من الحالات ‘سرق’ هذا التميز والتفوق كثيراً من وقت دراساتهم المنهجية المقررة، لا بسببهم طبعاً، بل بسبب من طمع في تفوق وتميز واجهته الخاصة والعامة.
هؤلاء الطلبة الموهوبون في هذه المجالات، ألا يستحقون التكريم باعتبارهم من المتميزين والمتفوقين؟ هل من الضرورة أن يبلغوا ‘مراد’ الـ’97٪’ فما فوق حتى يكرموا ويحصلوا على بعثة دراسية؟!
أعرف بعض الأهالي مارسوا سطوة قاتلة على أبنائهم من أجل وأد مواهبهم وتوجيههم عنوة إلى الدراسة المنهجية المقررة عليهم، بسبب عدم وضع الجهات المعنية ‘الموهبة’ في الاعتبار حين التخرج من المرحلة الثانوية. كما أعرف بالمقابل مدى حسرة وأسى بعض الأهالي لعدم حصول أبنائهم على بعثة في المجال الذي أفنوا طاقتهم وحلمهم فيه ولأجله وربما منذ الطفولة، علما أنهم متفوقون، ولكنهم خيروا بين هذا التخصص وتلك الموهبة، فاختاروا ما عشقوا. وأدرك أيضاً أسباب حيرة وقلق هؤلاء الطلبة الموهوبين الذين ربما طالهم الندم إلى حد الاكتئاب بسبب عدم حصولهم على بعثة أو منحة أو حتى مساعدة مالية في المجالات التي أحبوها إلى حد الولع والعشق، ففيهم المتفوق في الموسيقى ولنا أسوة في فتياتنا الموهوبات في مجال الموسيقى أمثال نور القاسم وصابرين فقيهي وأحلام عباس اللواتي تناولت موضوعهن في ملحق الكنش الأحد الماضي، وغيرهن من المواهب الموسيقية والغنائية، وفيهم المتفوق والمتعشق للسينما، يكتب فيها، يخرج ويشاهد ويتابع كل جديد ينتج في الدول المتقدمة في هذا المجال، وفيهم المتفوق في ألعاب القوى، والمجالات كثيرة وما المطلوب سوى العودة إلى أرشيف الجهات المعنية للتأكد مما ذهبت إليه.
الغريب في الأمر أن بعض المؤسسات والجهات خصصت جوائز للموهوبين وشكلت لجاناً لمتابعة اهتماماتهم بوصفهم طاقات استثنائية، ولكن حين ‘دقت الساعة’ صار هؤلاء الموهوبون خارج دائرة الاهتمام. وصارت النسبة والمجموع هما الأولى والأهم، علماً أن الدراسة الجامعية تقتضي الاختصاص لا الإلمام العام الذي يحصل عليه الطالب في دراسته الثانوية. والأكثر مرارة هو صمت جمعيات ومراكز الموهوبين عما يعانيه هؤلاء بعد التخرج من محاولات منهم ومن أولياء أمورهم لإقناع المسؤولين بمنح أو بعثات لدراسة المجالات التي أحبوها، أو طلبهم الشرعي في مساعدتهم على الأقل مالياً لموازنة المصروفات المالية التي ينفقونها على أبنائهم من أجل تحقيق رغبتهم، الأمر الذي يدعونا للتشكك في مصداقية واهتمام هذه الجمعيات والمراكز بالموهوبين، هل ساعدتهم؟ هل وجهت بعض المؤسسات الخاصة للإنفاق عليهم مثلاً أثناء دراستهم والهلهلات كثيرة كثيرة يا ولدي!!
في أوروبا، الجامعات تتنافس من أجل استقبال هؤلاء الموهوبين، لأنهم بتميزهم يعلون سمعة الجامعة ويوسعون قاعدة المنضمين إليها، بل إن بعض الجامعات والمعاهد الأوروبية تسارع إلى احتضان المواهب قبل إكمال دراستها الثانوية، خصوصاً في مجال الموسيقى. ولنا أسوة في مواهب بحرينية متميزة لم تنل حظها للدراسة مبكراً في أحد هذه المعاهد أو إحدى هذه الأكاديميات، والسبب لا يحتاج إلى تفاصيل كثيرة، فهو معروف خصوصاً لمن وضع الفن على هامش الاهتمامات الأخرى. ولعلنا بهذا اللا اهتمام وعدم الاكتراث، نكون قد ساهمنا في وأد كثير من المواهب، بل لعلنا ساهمنا في دفعهم إلى كره ما يعشقونه. وإذا كانت بحريننا يوماً مليئة بمثل هذه المواهب، فسنراها في المستقبل القريب قاحلة ناضبة جرداء، ولعل هذا منى ومراد وديدن المعادين للمواهب وخصوصاً الفنية والرياضية وبالذات مجالات كالجمباز والسباحة والباليه..
متى يأتي اليوم الذي تعتني فيه الجهات المعنية والجهات المساندة لها بهؤلاء الموهوبين وتعتبرهم من المتفوقين فيستحقون منها كل الاهتمام والتكريم؟
صحيفة الوطن
2 يوليو 2008