عندما ينادي كاتب مخضرم مثل عبداللطيف الدعيج بإلغاء مجلس الأمة الكويتي، فلا بد أن في الأمر خطأ. فهذا الكاتب الليبرالي (حتى النخاع كما يصفه أصحابه) كتب عقودا طوال مدافعا عن المشاركة السياسية. وحق البرلمان في فرض سلطته. وتقييد سلطة الحكومة. وتقنين مزايا الأسرة الحاكمة.
فلم ينادي، وقد صار في خريف العمر، بإلغاء البرلمان؟ يعتقد الدعيج، المقيم في الولايات المتحدة منذ زمن طويل، أن مجلس الأمة الكويتي انتهك أغلب مواد الدستور الذي انتخب وفقا لمواده.
في مقالة حديثة، يشرح موقفه:
يوضح أن “الديمقراطية” بشكلها ومضامينها العصرية ليست “حكم الاغلبية”، فهذه كانت في العصور الغابرة، عصور السادة والعبيد، حاليا الديمقراطية هي حفظ حقوق الجميع، القرارات بالأغلبية لكن أحدا لا يتفرد في الحكم، سواء كان حزبا أو طائفة أو أغلبية جماهيرية أو نيابية، فالذي يحكم عمليا هو الدستور أو الأمة مجتمعة وليس طائفة منها أو تحالفا لبعض طوائف.
ثانيا، الدستور ليس صيغة لتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بل هو عقد بين المواطنين جميعا لتنظيم وتحديد العلاقات والحقوق والواجبات بينهم. إن الكل ملزم بهذا الدستور الذي تم التعاقد عليه، ولا تملك طائفة أو فئة ولو حازت الأغلبية أن تعدل فيه أو تتخلى عن التزاماتها وما تعهدت به.
ثالثا، النظام الديمقراطي يسعى لصون وحماية حقوق الأفراد وليس فرض هيمنة الجماعة أو إملاء سلوك عام على أعضاء الجماعة المتعاقدة. فهذه ديمقراطية الأنظمة الشمولية.. الحزب الواحد والفكر الواحد والصبغة الواحدة.
رابعا، ليس في إمكان أحد القفز على مبادئ النظام الديمقراطي او التنكر لها. خصوصا مبادئ الحرية والعدالة والمساواة، حتى لو كان “الشعب” أو الأمة ذاتها. ليس هناك استفتاء عام وليس هناك خضوع لرأي الجماهير أو الشارع. إن الأمة ذاتها، وليس من تنتخبهم، مقيدة بقيود دستورية ومبادئ ديمقراطية.
كلام خطير جدا. ويتطلب قراءة هادئة. فهو يناقض مجمل أدبيات “الديمقراطية” في العالم العربي. ويعارض أسس “الأسرة الواحدة” والإجماع أو اتفاق الأغلبية، وسائر التعبيرات التي قامت على أساسها المجالس المنتخبة في المنطقة، لا سيما في دول الخليج (الكويت والبحرين في شكل خاص).
لكن عند قراءة ثانية، يتضح أن الدعيج لم يخترع مبادئه الأربعة تلك. بل هي أساس المشاركة الشعبية التي ينادي بها الجميع. كما إنها تفترض العدالة للجميع، حاكما ومحكوما. وتؤمن استقرار الدساتير، وتشجع على تفرغ البرلمانات لعملها الأصلي: تشريع القوانين التي تسهل عمل الدولة وتضمن تطور المجتمعات وتحديث الحياة السياسية والاقتصادية.
لكن مأخذ الدعيج وكثيرين على البرلمان الكويتي (خاصة الحالي المنتخب حديثا) أنه سعى على الدوام إلى تقليص الحريات الفردية، وشرع قوانين تخالف أبسط مبادئ حقوق الانسان. وتدخُّل أعضائه في الحياة الخاصة. وآخر تلك البدع إنشاء لجنة طريفة اسمها “لجنة الظواهر السلبية”.
ولكن هل هذه الممارسات المضادة لروح ونصوص الدستور ومبادئ الديمقراطية العامة خاصة بمجلس الأمة الكويتي؟ بالتأكيد لا.
نظرة سريعة على ما ” أنجزه ” مجلس النواب البحريني تؤكد على الأقل بعضا مما يشتكي منه الدعيج وكتاب بحرينيون كثر.
ففي حين انشغل البرلمان الكويتي بإعادة هيكلة الفرد ومعتقداته، انشغل نظيره البحريني بالنسيج الطائفي محاولا إعادة هيكلة التعامل بين الطوائف. فيستجوب أعضاء سنة وزيرا شيعيا، وأعضاء شيعة وزيرا سنيا. ويصبح مذهب موظف في المجلس قضية رأي عام. وينشغل أعضاء آخرون بقراءة خطب الجمعة علها توحي لهم بما يثيرونه من “قضية مهمة” تحت القبة.
المؤسستان “المنتخبتان” في الكويت والبحرين تقومان بأدوار كثيرة. لكنهما للأسف بعيدتان كل البعد عما يجب أن يكون عليه البرلمان. وظيفة البرلمان إعادة هيكلة القوانين وتحديثها لتوسيع الحريات، لفتح قنوات جديدة للتعبير، وقنوات جديدة للاستثمار الاقتصادي، لتسهيل عمل المحاكم وليس للتدخل في عملها، لحماية مقدرات البلد ومصادره الطبيعية، لمراقبة عمل السلطة التنفيذية وليس لمراقبة ما يفعله المواطن في غرفة نومه، لإغلاق مصادر الهدر في المال العام وليس لإغلاق نوافذ الحريات وحساب أنفاس المواطن المسكين ومحاسبته على مشاهدة أغنية لهيفاء وهبي.
برلمانات أخرى غير بعيدة عنا تستحق الإلغاء أيضا. في لبنان، اجتمع البرلمان منذ انتخابه في مايو 2005 مرتين فقط. مرة في يوليو ذلك العام للعفو عن قاتل مدان بجريمة تـفجير طائرة رئيس وزراء أسبق (رشيد كرامي) هو سمير جعجع، والمرة الثانية في أواخر مايو 2008 لانتخاب الرئيس ميشال سليمان. وما بين هذين اليومين بقي البرلمان مغلقا. نوابه يعملون لدى الفضائيات العربية التي وفرت لهم مجالا للحديث في كل شيء ما عدا الوظيفة التي انتخبوا من أجلها: التشريع.
في مصر، صوت البرلمان قبل فترة بأغلبية كاسحة (ومتحمسة على حد وصف بعض الصحف) بالموافقة على تمديد العمل بقانون الطوارئ الساري منذ أكثر من سبعة وعشرين عاما. لم يؤثر في حماس هؤلاء النواب التقارير التي تردهم يوميا عن موت المعتقلين تحت التعذيب في مراكز الشرطة، والاستغلال المشين للقانون من قبل بعض الأجهزة لتغيير مسار الانتخابات العامة والمحلية. وغير ذلك من تجاوزات طالت مثقفين وكتاب وأساتذة جامعة وصحافيين.
بعض أمثلة على “البرلمانات” العربية لا بد تثير شعورا بالقرف عند الدعيج وغيره. لا عجب إذن أن يدعو إلى إلغاء مجلس الأمة. ربما هذا ظاهر الدعوة. لكنها أعمق من ذلك. هي دعوة لنا جميعا للتفكر في مسار مجتمعاتنا. ربما نحن في حاجة إلى مؤتمر (على وزن مؤتمرات السياحة والسفر والاستثمار العقاري والمحافظ الاستثمارية) لمناقشة الخطأ في التجربة الديمقراطية في الخليج. لمعرفة ” وين الغلط ” ومحاولة تصحيحه. قد لا يؤثر ذلك المؤتمر في صناع القرار، ومسار المجالس المنتخبة برضاهم. لكنها ستكون تحذيرا “خفيف اللهجة” بالطبع ضد تمادي النواب في الانقلاب على الديمقراطية باسم الديمقراطية (مشوهة).
الأيام 1 يوليو 2008