في الحلقة الماضية اشرت الى ان كتابة تاريخنا الوطني بحاجة ماسة إلى باحثين ومؤرخين نزيهين متجردين من النزعات والعواطف والاهواء المريضة على اختلاف أنواعها، كما اختتمت الحلقة بالاشارة الى ان الباحثين والمؤرخين العرب المتميزين بهذه الخاصية مازالوا قلة في كل الاقطار العربية، وعزوت ذلك لغياب حرية التعبير وحرية البحث العلمي في كل هذه الدول العربية وان بدرجات متفاوتة، وبضمنها للأسف دول معروفة بتبني قياداتها شعارات ومشاريع اصلاحية فيما هي مواقفها من حرية البحث العلمي في كتابة التاريخ على النقيض من ذلك أي لا تعكس ما ترفعه من شعارات ديمقراطية.
على ان الامانة الموضوعية تقتضي القول في هذا السياق والمناسبة ان صاحب السمو الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء كان المتبني والحاضن الأول لفكرة تشكيل لجنة وطنية علمية لكتابة تاريخنا الوطني والتي تقدم بها نفر من كبار المؤرخين والمثقفين المرموقين في بلادنا، ومنحها التفويض الكامل والاستقلالية لمباشرة اعمالها الى ان تنتهي من عملها، فقد رحب سموه بمنحها كل اشكال الدعم والرعاية المطلوبة وبالفعل فقد تشكلت اللجنة غداة التصويت على الميثاق مدفوعة بحماس بأجواء الانفراج السياسي الجديدة حينئذ. وجاء تشكيلها منسجماً تماماً مع نسيجنا الوطني على نحو توازني بل ويعكس ايضاً في الغالب التنوع الثقافي والفكري السائد في مجتمعنا. وقد عكفت هذه اللجنة العلمية التاريخية على القيام بأعمالها بجد ومثابرة وبكل تفان واخلاص وبلا كلل حتى شارفت أعمالها على الانتهاء.
وبشر احد ابرز اعضائها الرأي العام الثقافي والعلمي في المملكة بقرب صدور مجلدها الأول وكان ذلك، إن لم تخني الذاكرة، في مثل هذا الوقت قبل نحو ثلاث أو أربع سنوات. وحينها اتذكر أن غمرتني الفرحة لهذا النبأ السعيد، مثلي في ذلك مثل المئات من كتابنا ومثقفينا وقرائنا الحابسين انفاسهم بتلهف على احر من الجمر بانتظار المولود الاول (المجلد) لهذا الانجاز العلمي الحضاري التاريخي الكبير. لكن فجأة انقطعت تماماً كل ما يتعلق باللجنة التاريخية من اخبار عن نشاطاتها، حتى علمنا بعد مضي الوقت بأن المجلد الأول لن يرى النور، وإنْ كانت فرصة ولادته مازالت قائمة بانتظار معجزة انقاذية عليا من جنس المعجزة التي حققها سمو رئيس الوزراء حينما تبنى واحتضن على الفور فكرة المشروع وتعهد بدعمه ورعايته الكاملة.
وقد بر سموه بوعده الكريم منذ انطلقت اعمال اللجنة متشجعة من رعاية ودعم سموه للمشروع ومتابعته عن كثب لأعمال اللجنة. وإذ شكل عدم صدور المجلد الأول صدمة كبرى لنا نحن معشر المثقفين والاكاديميين العاشقين لتراث وتاريخ وطنهم، فما بالنا بمدى حجم الصدمة في نفوس الجنود المجهولين اعضاء اللجنة الذين سهروا الليالي الطويلة والأيام مضحين بأوقاتهم في تفانٍ واخلاص من اجل انجاز هذه المهمة العلمية الجليلة التي شرفوا بتكليف انجازها وشارفوا على الانتهاء منها؟ ناهيك عن ابلاغهم بشكل مفاجئ وعلى حين غرة بعدم الاستمرار في اعمالها. ولك ان تتخيل عزيزي القارئ هنا الحالة النفسية وحجم الاحباط الكبير الذي يخالج نفوس كل أعضاء اللجنة دون استثناء. والمستغرب اكثر ان لا أحد من اعضاء هذه اللجنة يميط اللثام عن اسباب توقفها بكل وضوح وبشفافية كاملة امام الرأي العام المحلي بالرغم من اجواء حرية التعبير التي كفلها المشروع الاصلاحي لجلالة الملك اللهم عضوا واحدا بارزا فيها ورغم ما كتبه دفاعاً عن اللجنة في صحافتنا الوطنية فإنه لم يمط اللثام بشفافية وبما فيه الكفاية عن خلفيات اعمالها وما حققته وما لم تحققه؟ وما هي الخلفيات الحقيقية الكاملة لاسباب توقف اعمالها المفاجئة؟.. وعما اذا سيكون هذا التوقف هو لأسباب مؤقتة طارئة ستزول ام هو توقف دائم ولن ترى كل اعمالها النور لا قريبا ولا بعيدا لا سمح الله؟ وإذ نحيي بحرارة جهود سمو رئيس الوزراء ودعمه لكتابة تاريخنا الوطني ونجدد ترحيبنا بتصريحه الصريح “إن تاريخ الوطن لا يكتبه إلا أهله” وهو تصريح يرقى الى مرتبة القول المأثور الذي يستحق ان تعلقه لجنة كتابة التاريخ شعاراً على جدار غرفة جلساتها اذا ما استأنفت أعمالها، أو ان تجعله شعاراً ووساماً على صدور اعضائها، فإن الآمال تحدونا بقوة وبما عهدناه عن سموه الكريم من شفافية ومصارحة بإقالة اللجنة من كبوتها الراهنة المزمنة الخارجة عن ارادتها أو مساعدة اعضائها على البوح باطلاع الرأي العام عن اسباب توقف اعمالها.
صحيفة اخبار الخليج
29 يونيو 2008