ماذا يعني قدرة التنظيم السياسي على الاختراق؟ وكيف يخفي وجهه بعدة أقنعة؟ وأين هي المواقع الأكثر أهمية وممكنة للاختراق؟ تلك أسئلة لا نحاول التركيز على مناقشتها هنا وان كانت هناك أسئلة كثيرة تتعلق بفن العمل البيروقراطي وقدرة الموظفين القابعين خلف تلك الأوراق في القدرة على التلاعب بأوراق الناس متى ما رغبوا في التلاعب بها، خاصة إذا ما كانت تلك الزمرة لوبياً محترفا ومرتبطا بتنظيم سياسي أو ما يشبه العصبة المنظمة كما هي تلك الشبكات الأخطبوطية في الدول، حيث نجد أن كلما كانت تلك الزمرة قابعة خلف تلك المكاتب مددا أطول وجذورها ضاربة في أوصال وشرايين المؤسسة بدرجة أفقية وعمودية فيها، فان الوضع عسير إذ تصل إلى اكبر رجل فيها يمتلك القرار إلى ابسط موظف قادر على تمرير الأوراق بسلاسة ويسر كلما استلم الأوراق من “عمدة” لديه الأصابع الميسرة.
هؤلاء يمثلون اليوم قوة خارقة متنفذة تمتلك تحريك القرار حسب وجهتها دون علم أو قدرة صاحب “التوقيع” أن يناقشها، فقد اعتاد أن يترك لهم تحريك الأوراق حسب مشيئتهم وإرادتهم سواء بقناعة او انطلاقا من ثقة عمياء أو شراكة خفية قائمة بين المراتب العليا وتلك القوة القابعة خلف المكاتب توزع ابتساماتها “الذهبية والخبيثة!” فحين تترك أوراقك وتغادر المكتب لا تعلم ما الذي يصيبها من تعثر وحوار وتآمر، لكونهم وحدهم يلعبون بتلك الأوراق فلكل أصابع منهم مساحة في تشكيل لون المؤسسة ووجهها الوهمي والحقيقي دفعة واحدة، فيما يرى الناس المراجعون لأوراقهم مجرد معاملات باهتة وأوراقاً متطايرة من شخص إلى آخر، وكأنك تتحرك ككرة المضرب في لعبة “البنغ بونغ”، وكلما حركت عنقك أسرع ازدادت الضربات في سرعتها إلى درجة تشعر بدوار يومي بين قسم وآخر، وإذا ما ارتفع صوتك فإنهم يتمتعون في ذات الوقت بقدرة مسرحية وبصوتين معا بدا لك متناقضين، فهم قادرون على الرد بدبلوماسية كبيرة وأيضا يردون بصوت أعلى متصلبا ومهينا بقدر ما “روح شوف المسؤول الأكبر” فتحال إليه بل ويعطونك أوراقك التي نامت لشهور في أدراج مكاتبهم بعد أن عثروا عليها بحكاية جديدة هو أن الموظف خرج في “إجازة” وقد ترك الأوراق في مكتبه المغلق. وكأن المؤسسة باتت مؤسسة لأفراد ومكاتب خاصة وليس عملا داخل مؤسسة تتمتع بدرجة عالية من عملها الإداري والمؤسساتي.
بعد كل تلك الإجابات الباهتة المثيرة للأعصاب فان الإجابة الأعظم لجعلك صامتا هو أن أوراقك لدى الوزير ولكن الوزير خرج للمؤتمر وسيعود بعد أسبوع، وإذا ما راجعتهم فإنك ستجد عملا منظما آخر هو أن الوزير جاء بالأمس وداوم ساعتين ولكنه خرج في إجازة طويلة قد تطول إلى شهرين وعليك الانتظار.. فتدور حلقة اللعبة لمنظومة قررت أن تؤدبك أو تنتقم منك أو تدفعك للتطفيش أو إغاظتك عمدا “لعبة الفخ والمكيدة” لكي تلبسك تهمة الإساءة والقذف لرجل يؤدي مهماته الوظيفية بكل اتقان وتهذيب وأمانة!! فتضحك من الكلمات الثلاث فتقول في نفسك بعد أن تستلم أوراق المحكمة فجأة وتكتشف بأنك مطلوب غدا للمحاكمة في القاعة ولنقل “ج الكبرى” فتتحيّر من كل تلك الإجراءات فتتصل بالمحامي والذي بدوره يحَار مثلك فتكتشف انك في جزيرة الحيرة وربما تكتشف بعد أيام انك في جزيرة الكوابيس عندما يخرج لك ذلك الموظف الجدير باللعب “بأوراقك باتقان!” ضمن منظومة واسعة ومنتشرة في أقسام متنوعة في المؤسسة ومتغلغلة بتجذر طويل الأمد بحيث يتغير وزير ويموت وزير، ولكن المنظمة وشبكتها باقية لكونها تدير عملا مؤسساتيا مرتبا.
فماذا يضحكك في الأوراق عادة أكثر من تلك الجمل والكلمات اللعينة التي خاطها مشرع من نمطهم فاسد حتى العظم وقد تم استدعاؤه والطلب منه بوضع نصوص سهلة الامتناع وصعبة المعنى وشفراتها ملغزة ورموزها هيروغليفية! ولكنك في النهاية تعرف العربية بكل وضوح إن كنت قد شتمت أو تطاولت على الموظف واتهمته في أمانته ونزاهته الوظيفية، وتلك هي التي أضحكتك كثيرا ثم اتهامك له بالرشوة والكسل والبلادة، فيما هو معروف بنشاطه واتقانه للعمل وهذه نكتة إضافية في ورقة الدعوة.. أما تهمة القذف فهي وحدها مخجلة، فيما يرى أولئك من يلعبون بأوراق خفية انك قذفتهم بمفردات يمنعها القانون وقوة القانون وكان أجدر بك تهمة الاهانة بدلا من تهمة القذف!!
حمانا الله من النجاسة وطهرنا بحسن المعاملة فسرتهم تلك العبارات عندما سمعوها بعد أن وجدت أن المكتب برمته عيون بغيضة تحتكر كل الأوراق والمعاملات في شتى المكاتب بل والشركات، غير ان ظاهرة الاستحكام والانغلاق العصبوي نراها في مؤسسات الدولة اقل من المؤسسات الخاصة ولكنها باتت في البنوك الإسلامية ظاهرة واضحة، بينما تراجعت في شركات ومؤسسات “نظفت” نفسها من هجمة وتحكم تلك الأصابع الخفية.
فلماذا يغيب دور الرقابة الإدارية والمحاسبة فيما نسمع ليلا ونهارا عن الشفافية وملاحقة الفساد ومناهضته بهدف دفع مشروعنا الإصلاحي للأمام وبجعل فضاء الحريات والديمقراطية أكثر عدلا ونزاهة. فإذا تغلغلت تلك الأصابع في التعليم والإعلام والقضاء ثم مؤخرا “بيت الشعب” هل يكون خيارنا سهلا ونصمت أم نواصل مواجهة كل نمط من الفساد المستشري؟ وكيف يكون مصير كل صوت يؤمن بالمواجهة ويجد نفسه ذات يوم يحمل أوراقه الرسمية إليهم، فهناك لن يجد إلا تلك الابتسامة الذهبية فيما تبدو العيون تخفي لعبتها أيضا، وهذه المرة في جهاز الكمبيوتر.. فالسيستم معطل!
صحيفة الايام
29 يونيو 2008