المنشور

الأزمة أم الفرصة‮..‬؟‮!‬

الأزمة عند أهل الصين لها معنيان،‮ ‬فهي‮ ‬قد تعني‮ ‬المصيبة أو الورطة،‮ ‬وقد تعني‮ ‬الفرصة‮.‬
هي‮ ‬مصيبة إذا استسلمت لها ولم تعرف كيف تتعامل معها،‮ ‬وهي‮ ‬فرصة اذا تعلمت منها واعتبرت واتعظت واستفدت‮.‬
من هذه الزاوية نتمنى أن نكون قد وعينا واستوعبنا الدرس جيداً‮ ‬لأبعاد وخطورة الأزمة التي‮ ‬تمثلت في‮ ‬اللغة التي‮ ‬تداولها والتي‮ ‬كانت تطالعنا بها بعض الصحف المحلية كل‮ ‬يوم تقريباً،‮ ‬تصريحات وخطابات وردود وبيانات نستطيع إذا أردنا أن نجردها وأن نستكملها بإحصاء أسماء مستخدميها وكلها خلت من السياسة والمنطق بل ومن أدب المخاطبة،‮ ‬وانحدر الأمر إلى ما هو أسوأ من ذلك،‮ ‬إلى الشتيمة والسخرية والتسفيه والتحقير،‮ ‬وغيبت كل لياقات التخاطب من قبل‮ “‬مقاولي‮ ‬التأزيم‮” ‬والشحن الطائفي‮ ‬من الذين‮ ‬يقفون في‮ ‬الواجهة أو خلفها من‮ “‬مقاولي‮ ‬الباطن‮”، لهذا فإننا نتمنى أن نكون بتدخل جلالة الملك وتوجيهاته قد دخلنا مرحلة تطوي‮ ‬نهائياً‮ ‬صفحة المبارزات والبازات والمزايدات الممتلئة هراءً ‬التي ‬رغم سطحيتها أحدثت قدراً‮ ‬كبيراً‮ ‬من التلوث في‮ ‬واقعنا من الخطأ الجسيم التهوين من شأنه،‮ ‬وكأننا كما قال الشيخ صلاح الجودر على وشك حرب بسوس جديدة،‮ ‬وكدنا أن ندخل إلى نفق تنعدم فيه الرؤية والبصيرة كما قال الشيخ حميد المبارك‮.‬
وما دام نداء جلالة الملك بضرورة الالتزام بكل ما‮ ‬يحفظ الوحدة الوطنية،‮ ‬والحوار الوطني‮ ‬الراقي،‮ ‬والتلاحم الوطني،‮ ‬ووقف العبث بمحتويات خطاب الجمعة في‮ ‬المساجد،‮ ‬والتسامي‮ ‬بالمنابر الدينية فيما هو بعيد عن رسالتها السامية ويؤكد على ثوابت العيش المشترك وقطع دابر الفتنة‮.‬
ما دام هذا النداء قد حظي‮ ‬بتأييد كل أطياف وقوى المجتمع،‮ ‬رجال الدين والخطباء أيدوا،‮ ‬والبرلمانيون أيدوا،‮ ‬والسياسيون أيدوا،‮ ‬والصحافيون أيدوا،‮ ‬وجمعية الصحافيين أيدت،‮ ‬والحكومة أيدت وأعلنت التزامها بأجهزتها المختلفة بالعمل على ترسيخ المبادئ والقيم التي‮ ‬وردت في‮ ‬التوجيهات الملكية بالحفاظ على السلم الاجتماعي‮ ‬والأمن الوطني‮ ‬والاقتراب من كل ما‮ ‬يرتقي‮ ‬بمستوى الخطاب الذي‮ ‬يقرّب وينأى بنا عن كل ما‮ ‬يثير الفتنة ويعمق الخلاف‮. ‬وفي‮ ‬هذا السياق سارعت وزارة التنمية الاجتماعية إلى إعلان تبنيها مبادرة هدفها تقوية الوحدة الوطنية ونتوقع مبادرات مماثلة من جهات أخرى عديدة،‮ ‬والمرجو ألا‮ ‬يكون ذلك في‮ ‬خانة البهرجة الإعلامية فحسب التي‮ ‬تطلق لمجرد إثبات تجاوب هذه الجهة أو تلك مع التوجيهات الملكية،‮ ‬بل على هذه الجهات أن تدرك أنها أمام التزام حقيقي‮ ‬وعمل مضنٍ‮ ‬وأمام مسؤولية بجعل الطريق سالكة للالتزام الفعلي‮ ‬المعبر عن التقيد بمضمون تلك التوجيهات وخلق أجواء إيجابية دائمة تقطع الطريق على كل من‮ ‬يريد أن‮ ‬يجرنا إلى منزلق طائفي‮ ‬يدفع ثمنه جميع البحرينيين دون استثناء‮.‬
لقد وجدنا أنفسنا في‮ ‬الأيام الماضية،‮ ‬بل الفترة الماضية،‮ ‬أمام نظرة خاطئة،‮ ‬بل جاهلة للسياسة،‮ ‬والعمل السياسي،‮ ‬جعلت المنطق‮ ‬ينسل إلى مؤخرة العقل،‮ ‬وأصبح مفهوم السياسة‮ ‬يضلل أكثر مما‮ ‬يضيء،‮ ‬ويكذب أكثر مما‮ ‬يصدق،‮ ‬ويشتت أكثر مما‮ ‬يوحِّد،‮ ‬وكم هو مؤسف وشديد الاستفزاز أن من‮ ‬يفعلون ذلك لا‮ ‬يترددون في‮ ‬طرح حيثيات تتلفع برداء الوحدة الوطنية،‮ ‬وتتحصن بدفاعات توظف الدين وتمسك بكتاب المولى العلي‮ ‬القدير،‮ ‬والأحاديث الشريفة والسيرة النبوية وأخبار الصحابة‮ ‬يقتطعون منها ما‮ ‬يريدون،‮ ‬ويوظفون منها كيفما‮ ‬يشاءون دعماً‮ ‬لأفكارهم وتأكيداً‮ ‬على صحة آرائهم التي‮ ‬تزعم وبشكل فج بأنها تصب دوماً‮ ‬في‮ ‬الدعوة إلى الوحدة الوطنية،‮ ‬في‮ ‬الوقت الذي‮ ‬لم نشهد ولم نلمس من هؤلاء على أرض الواقع سوى كل ما‮ ‬يشحن النفوس ويجعل الطائفية بأبشع أنواعها وألوانها تزداد رسوخاً‮ ‬على حساب المجتمع والدولة بافتعال النعرات والتجاذبات حول مسائل الهدف منها خلق الاصطفافات والاستقطابات الطائفية والمذهبية،‮ ‬وعشنا بسبب ذلك أجواء قلقة وحالة من المآزق والتمزقات والإفلات من كل منطق وعدم فهم حقيقي‮ ‬لمعنى المسؤولية‮.‬
إن المسؤولية تدعو أول ما تدعو إلى ولوج طريق التغيير الحقيقي‮ ‬للحياة السياسية وتطويرها على أسس ديمقراطية سليمة تنقلنا إلى رحاب المواطنية الصادقة المخلصة للوطن والشعب‮.‬
‮ ‬هذا أولاً‮…‬
المسؤولية تقتضي‮ ‬ثانياً‮ ‬التزام كل تلك الأطراف بترجمة توجيهات جلالة الملك إلى عمل وطني‮ ‬وبكل ما‮ ‬يجعل المزاج العام ساخناً‮ ‬أو منفلتاً‮ ‬أو مشحوناً‮ ‬بالنفس الطائفي،‮ ‬وقبل ذلك لا بد من توافر إرادة الالتزام الحقيقي‮ ‬بهذه التوجيهات‮.‬
وثالثاً‮ ‬فإن المسؤولية مشتركة بين الحكومة وأعضاء مجلس النواب،‮ ‬وقوى ومؤسسات المجتمع المدني،‮ ‬والمساجد والمآتم،‮ ‬والصحافة والإعلام،‮ ‬والتربية والتعليم،‮ ‬والمؤسسات الشبابية،‮ ‬فالمتراكم‮ ‬يحتاج إلى جهد من الجميع،‮ ‬جهد استثنائي‮ ‬حقيقي‮ ‬فاعل ومؤثر إلى أبعد الحدود‮.‬
فالحكومة مثلاً‮ ‬ليس عليها أن تكتفي‮ ‬بالإعلان بأنها لن تسمح بأي‮ ‬تجاوز في‮ ‬القيم والثوابت الوطنية،‮ ‬أو أن تشكل لجنة لمراقبة المنابر والصحف والمواقع الإلكترونية لضمان تحقيق ذلك الهدف،‮ ‬بل عليها أن تكون حقاً‮ ‬هي‮ ‬القدوة والمثل في‮ ‬إرساء القيم والثوابت الوطنية بالممارسة والفعل والتشريع،‮ ‬وفي‮ ‬هذا السياق لا بد من تجريم الطائفية والتمييز وعدم‮ ‬غض النظر عن التجاوزات،‮ ‬وأن تتوقف عن دعم الطائفيين الموتورين الذين خلقوا هذه المناخات التي‮ ‬تطأفن كل جهد وعمل وطني،‮ ‬ولا بد أن‮ ‬يقترن ذلك بإشاعة مبدأ الجدارة والكفاءة في‮ ‬اختيار الموظف المناسب للمكان المناسب،‮ ‬ويصبح ساعتئذ ولاء الموظف للوطن لا لهذا المسؤول أو ذاك،‮ ‬أو لهذه الزعامة الطائفية أو تلك،‮ ‬أو لهذا التكتل النيابي‮ ‬أو ذاك‮.‬
أما مؤسسات المجتمع المدني‮ ‬وقواه الفاعلة فبمقدورها أن تفعل الكثير حيال كل ما‮ ‬يحفظ النسيج الاجتماعي‮ ‬ويعزز الوحدة الوطنية،‮ ‬وما الحملة التي‮ ‬دشنتها جمعية‮ “‬وعد‮” ‬قبل أيام تحت شعار‮ “‬نداء من أجل الوحدة الوطنية‮”‬،‮ ‬إلا صورة من صور التحرك الايجابي‮ ‬المعبر عن القلق من الاحتقان الطائفي‮ ‬المتفاقم الذي‮ ‬ينذر بعواقب وخيمة على الوحدة الوطنية ومصالح المواطنين المشتركة جراء الشحن الطائفي‮ ‬الذي‮ ‬يمارسه بعض المحسوبين على الدين والسياسة ممن تخصصوا في‮ ‬توجيه التهم والإساءات والسباب والتخوين والتكفير للأفراد والجماعات والتيارات والكتل‮.‬
وبالنسبة للصحافة ووسائل الإعلام فما عليها الآن على الأقل إلا أن تثبت تمسكها والتزامها بميثاق‮ “‬صحفيون ضد الفساد‮”،‮ ‬وأن تمتنع عن نشر كل ما‮ ‬يقسم ويشرذم ويذكي‮ ‬الشحن الطائفي‮ ‬والعصبيات الضيقة،‮ ‬وحتماً‮ ‬هذا لا‮ ‬يعني‮ ‬أن المطلوب التلكؤ أو التخاذل،‮ ‬والتراجع في‮ ‬موضوع احترام الحريات،‮ ‬وفي‮ ‬مقدمتها حرية التعبير،‮ ‬فهذا الاحترام‮ ‬يجب ألا‮ ‬يكون بديهياً‮ ‬فحسب،‮ ‬بل لا بد أن‮ ‬يتخطى ذلك ليصبح مبدأ مدروساً‮ ‬بجدية وعمق هادفين إلى الارتقاء بكل ما‮ ‬يخدم مصلحة الوطن والمواطن،‮ ‬ولكن لا‮ ‬ينبغي‮ ‬تحت زعم هذه الحريات أن نحولها إلى أعباء جسيمة هي‮ ‬في‮ ‬كل الأحوال تمنع تطور الشعب والوطن‮.‬
هناك أيضاً،‮ ‬خصوصاً‮ ‬النواب وكتلهم،‮ ‬فذاكرتنا لا تزال عالقة بتلك الأصوات الناشزة منهم والناطقة بكل ما هو‮ ‬غير مقبول في‮ ‬لغة التخاطب السياسي،‮ ‬وبذلك الهرج والمرج الذي‮ ‬طأفن العمل النيابي‮ ‬وأذكى الطائفية،‮ ‬ولا ننسى دور أصحاب السماحة والفضيلة من رجال الدين،‮ ‬والجمعيات والقوى السياسية،‮ ‬الجميع دون استثناء عليهم دور وواجب حمل عبء المسؤولية في‮ ‬وقف تأجيج المشاعر الطائفية التي‮ ‬تشتد خطورتها عندما تتسرب آثارها إلى قلوب الأجيال الجديدة،‮ ‬والمواطن عليه أن‮ ‬يحتكم إلى العقل حتى لا‮ ‬يكون وقوداً‮ ‬لأي‮ ‬فتنة تدفع بنا إلى المجهول أو تفضي‮ ‬بنا إلى ما‮ ‬يحمّل مجتمعنا المزيد من الأورام والأمراض ما‮ ‬يكفي‮ ‬لتكبيله وتجميده‮.‬
بقي‮ ‬أن نقول للجميع‮: “‬الفضيلة ليست بإطلاق الحكمة وإنما الفضيلة تكون بالعمل بالحكمة‮”.‬

صحيفة الايام
27 يوينو 2008