الأزمة عند أهل الصين لها معنيان، فهي قد تعني المصيبة أو الورطة، وقد تعني الفرصة.
هي مصيبة إذا استسلمت لها ولم تعرف كيف تتعامل معها، وهي فرصة اذا تعلمت منها واعتبرت واتعظت واستفدت.
من هذه الزاوية نتمنى أن نكون قد وعينا واستوعبنا الدرس جيداً لأبعاد وخطورة الأزمة التي تمثلت في اللغة التي تداولها والتي كانت تطالعنا بها بعض الصحف المحلية كل يوم تقريباً، تصريحات وخطابات وردود وبيانات نستطيع إذا أردنا أن نجردها وأن نستكملها بإحصاء أسماء مستخدميها وكلها خلت من السياسة والمنطق بل ومن أدب المخاطبة، وانحدر الأمر إلى ما هو أسوأ من ذلك، إلى الشتيمة والسخرية والتسفيه والتحقير، وغيبت كل لياقات التخاطب من قبل “مقاولي التأزيم” والشحن الطائفي من الذين يقفون في الواجهة أو خلفها من “مقاولي الباطن”، لهذا فإننا نتمنى أن نكون بتدخل جلالة الملك وتوجيهاته قد دخلنا مرحلة تطوي نهائياً صفحة المبارزات والبازات والمزايدات الممتلئة هراءً التي رغم سطحيتها أحدثت قدراً كبيراً من التلوث في واقعنا من الخطأ الجسيم التهوين من شأنه، وكأننا كما قال الشيخ صلاح الجودر على وشك حرب بسوس جديدة، وكدنا أن ندخل إلى نفق تنعدم فيه الرؤية والبصيرة كما قال الشيخ حميد المبارك.
وما دام نداء جلالة الملك بضرورة الالتزام بكل ما يحفظ الوحدة الوطنية، والحوار الوطني الراقي، والتلاحم الوطني، ووقف العبث بمحتويات خطاب الجمعة في المساجد، والتسامي بالمنابر الدينية فيما هو بعيد عن رسالتها السامية ويؤكد على ثوابت العيش المشترك وقطع دابر الفتنة.
ما دام هذا النداء قد حظي بتأييد كل أطياف وقوى المجتمع، رجال الدين والخطباء أيدوا، والبرلمانيون أيدوا، والسياسيون أيدوا، والصحافيون أيدوا، وجمعية الصحافيين أيدت، والحكومة أيدت وأعلنت التزامها بأجهزتها المختلفة بالعمل على ترسيخ المبادئ والقيم التي وردت في التوجيهات الملكية بالحفاظ على السلم الاجتماعي والأمن الوطني والاقتراب من كل ما يرتقي بمستوى الخطاب الذي يقرّب وينأى بنا عن كل ما يثير الفتنة ويعمق الخلاف. وفي هذا السياق سارعت وزارة التنمية الاجتماعية إلى إعلان تبنيها مبادرة هدفها تقوية الوحدة الوطنية ونتوقع مبادرات مماثلة من جهات أخرى عديدة، والمرجو ألا يكون ذلك في خانة البهرجة الإعلامية فحسب التي تطلق لمجرد إثبات تجاوب هذه الجهة أو تلك مع التوجيهات الملكية، بل على هذه الجهات أن تدرك أنها أمام التزام حقيقي وعمل مضنٍ وأمام مسؤولية بجعل الطريق سالكة للالتزام الفعلي المعبر عن التقيد بمضمون تلك التوجيهات وخلق أجواء إيجابية دائمة تقطع الطريق على كل من يريد أن يجرنا إلى منزلق طائفي يدفع ثمنه جميع البحرينيين دون استثناء.
لقد وجدنا أنفسنا في الأيام الماضية، بل الفترة الماضية، أمام نظرة خاطئة، بل جاهلة للسياسة، والعمل السياسي، جعلت المنطق ينسل إلى مؤخرة العقل، وأصبح مفهوم السياسة يضلل أكثر مما يضيء، ويكذب أكثر مما يصدق، ويشتت أكثر مما يوحِّد، وكم هو مؤسف وشديد الاستفزاز أن من يفعلون ذلك لا يترددون في طرح حيثيات تتلفع برداء الوحدة الوطنية، وتتحصن بدفاعات توظف الدين وتمسك بكتاب المولى العلي القدير، والأحاديث الشريفة والسيرة النبوية وأخبار الصحابة يقتطعون منها ما يريدون، ويوظفون منها كيفما يشاءون دعماً لأفكارهم وتأكيداً على صحة آرائهم التي تزعم وبشكل فج بأنها تصب دوماً في الدعوة إلى الوحدة الوطنية، في الوقت الذي لم نشهد ولم نلمس من هؤلاء على أرض الواقع سوى كل ما يشحن النفوس ويجعل الطائفية بأبشع أنواعها وألوانها تزداد رسوخاً على حساب المجتمع والدولة بافتعال النعرات والتجاذبات حول مسائل الهدف منها خلق الاصطفافات والاستقطابات الطائفية والمذهبية، وعشنا بسبب ذلك أجواء قلقة وحالة من المآزق والتمزقات والإفلات من كل منطق وعدم فهم حقيقي لمعنى المسؤولية.
إن المسؤولية تدعو أول ما تدعو إلى ولوج طريق التغيير الحقيقي للحياة السياسية وتطويرها على أسس ديمقراطية سليمة تنقلنا إلى رحاب المواطنية الصادقة المخلصة للوطن والشعب.
هذا أولاً…
المسؤولية تقتضي ثانياً التزام كل تلك الأطراف بترجمة توجيهات جلالة الملك إلى عمل وطني وبكل ما يجعل المزاج العام ساخناً أو منفلتاً أو مشحوناً بالنفس الطائفي، وقبل ذلك لا بد من توافر إرادة الالتزام الحقيقي بهذه التوجيهات.
وثالثاً فإن المسؤولية مشتركة بين الحكومة وأعضاء مجلس النواب، وقوى ومؤسسات المجتمع المدني، والمساجد والمآتم، والصحافة والإعلام، والتربية والتعليم، والمؤسسات الشبابية، فالمتراكم يحتاج إلى جهد من الجميع، جهد استثنائي حقيقي فاعل ومؤثر إلى أبعد الحدود.
فالحكومة مثلاً ليس عليها أن تكتفي بالإعلان بأنها لن تسمح بأي تجاوز في القيم والثوابت الوطنية، أو أن تشكل لجنة لمراقبة المنابر والصحف والمواقع الإلكترونية لضمان تحقيق ذلك الهدف، بل عليها أن تكون حقاً هي القدوة والمثل في إرساء القيم والثوابت الوطنية بالممارسة والفعل والتشريع، وفي هذا السياق لا بد من تجريم الطائفية والتمييز وعدم غض النظر عن التجاوزات، وأن تتوقف عن دعم الطائفيين الموتورين الذين خلقوا هذه المناخات التي تطأفن كل جهد وعمل وطني، ولا بد أن يقترن ذلك بإشاعة مبدأ الجدارة والكفاءة في اختيار الموظف المناسب للمكان المناسب، ويصبح ساعتئذ ولاء الموظف للوطن لا لهذا المسؤول أو ذاك، أو لهذه الزعامة الطائفية أو تلك، أو لهذا التكتل النيابي أو ذاك.
أما مؤسسات المجتمع المدني وقواه الفاعلة فبمقدورها أن تفعل الكثير حيال كل ما يحفظ النسيج الاجتماعي ويعزز الوحدة الوطنية، وما الحملة التي دشنتها جمعية “وعد” قبل أيام تحت شعار “نداء من أجل الوحدة الوطنية”، إلا صورة من صور التحرك الايجابي المعبر عن القلق من الاحتقان الطائفي المتفاقم الذي ينذر بعواقب وخيمة على الوحدة الوطنية ومصالح المواطنين المشتركة جراء الشحن الطائفي الذي يمارسه بعض المحسوبين على الدين والسياسة ممن تخصصوا في توجيه التهم والإساءات والسباب والتخوين والتكفير للأفراد والجماعات والتيارات والكتل.
وبالنسبة للصحافة ووسائل الإعلام فما عليها الآن على الأقل إلا أن تثبت تمسكها والتزامها بميثاق “صحفيون ضد الفساد”، وأن تمتنع عن نشر كل ما يقسم ويشرذم ويذكي الشحن الطائفي والعصبيات الضيقة، وحتماً هذا لا يعني أن المطلوب التلكؤ أو التخاذل، والتراجع في موضوع احترام الحريات، وفي مقدمتها حرية التعبير، فهذا الاحترام يجب ألا يكون بديهياً فحسب، بل لا بد أن يتخطى ذلك ليصبح مبدأ مدروساً بجدية وعمق هادفين إلى الارتقاء بكل ما يخدم مصلحة الوطن والمواطن، ولكن لا ينبغي تحت زعم هذه الحريات أن نحولها إلى أعباء جسيمة هي في كل الأحوال تمنع تطور الشعب والوطن.
هناك أيضاً، خصوصاً النواب وكتلهم، فذاكرتنا لا تزال عالقة بتلك الأصوات الناشزة منهم والناطقة بكل ما هو غير مقبول في لغة التخاطب السياسي، وبذلك الهرج والمرج الذي طأفن العمل النيابي وأذكى الطائفية، ولا ننسى دور أصحاب السماحة والفضيلة من رجال الدين، والجمعيات والقوى السياسية، الجميع دون استثناء عليهم دور وواجب حمل عبء المسؤولية في وقف تأجيج المشاعر الطائفية التي تشتد خطورتها عندما تتسرب آثارها إلى قلوب الأجيال الجديدة، والمواطن عليه أن يحتكم إلى العقل حتى لا يكون وقوداً لأي فتنة تدفع بنا إلى المجهول أو تفضي بنا إلى ما يحمّل مجتمعنا المزيد من الأورام والأمراض ما يكفي لتكبيله وتجميده.
بقي أن نقول للجميع: “الفضيلة ليست بإطلاق الحكمة وإنما الفضيلة تكون بالعمل بالحكمة”.
صحيفة الايام
27 يوينو 2008