لعل من نافلة القول ان أوضاع الخدمات الصحية في معظم البلدان العربية تشهد تدهورا غير مسبوق، وهذا على عكس ما هو مفترض بأنه مع تقدم وسائل العلاج، بفضل الثورة العلمية والتكنولوجية، ومع تزايد الموارد البشرية الطبية المدربة يزداد تقدم هذه الخدمات الصحية طرديا. هنالك بطبيعة الحال عوامل موضوعية وذاتية متعددة لهذه النتيجة الكارثية العكسية المتمثلة في هذا التدهور المريع في الخدمات الصحية العربية ليس هنا مجال الخوض فيها، وان كنت أحسبها معروفة كلها أو جلها لذوي الألباب في البلدان العربية المعنية كافة.
وعلى صعيدنا المحلي فلعل هذا التدهور بدأ يأخذ منحاه التصاعدي بشكل لافت محسوس منذ ما يقرب من سبع أو ثماني سنوات وعلى نحو غير مسبوق منذ تأسيس وزارة الصحة غداة الاستقلال 1971، ويمكن لأي امرئ بحريني من دون استثناء أن يعدد ببساطة ما يشاء أوجه ومجالات القصور المتصاعد وتراكم الاخطاء والمشاكل والمقارنة بين حقبتين مميزتين: حقبة الثلاثة العقود الأولى التي اعقبت الاستقلال، وحقبة ما بعد هذه العقود الثلاثة. فما من مواطن أو مقيم على وجه ارض البحرين بأكملها إلا وله ما لا يقل عن خمس تجارب كبيرة مريرة مع مستشفى السلمانية من الأخطاء الفادحة خلال السنوات السبع الماضية التي يصعب عليه ان يلتمس عذرا لها، مهما ردت ادارة المستشفى من المبررات، دع عنك الأخطاء والتقصيرات المتوسطة أو الصغيرة التي يمكن للمواطن التماس الأعذار للوزارة، لعل وعسى.
لكن دعونا نأخذ في هذا المقام على سبيل المثال وكنموذج محوري مهم واحدا من المجالات الصحية المتعددة التي ما فتئت تشهد تدهورا في الخدمات العلاجية والطبية الا هو قطاع الأدوية، ففضلا عن الارتفاعات المتوالية في أسعار الأدوية فان الأدوية ذاتها أضحت اليوم ليست تحت متناول جيوب السواد الأعظم من المواطنين، اللهم الأدوية البسيطة المرتبطة بالأمراض غير الخطيرة الاعتيادية اليومية والتي بدورها ارتفعت أسعارها ارتفاعات قياسية متوالية، فما بالك بالأدوية الفائقة الأهمية التي قد يتسبب عجز المريض عن الحصول في تعرضه لأمراض خطيرة أو مضاعفات تفضي به الى الهلاك المحتوم. فهل كانت الخدمات الصحية في قطاع الادوية خلال حقبة عقود السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات على هذا النحو من التدهور والقصور؟
واذا كانت مشكلة ارتفاع أسعار الأدوية هي مشكلة عالمية فإن ذلك لا يعني البتة انتفاء أي دور لوزارة الصحة للتخفيف منها ولو نسبيا عبر ليس تشديد الرقابة الميدانية على الصيدليات التجارية فحسب من حيث الاسعار، بل عبر رقابة مدى صلاحية الادوية، سواء فيما يتعلق بانتهاء عمرها الافتراضي او فيما يتعلق بكونها مزورة، علما بأن صيدليات الوزارة نفسها شهدت حالات عديدة – كما نشرت صحافتنا – من وجود ادوية في مخازنها ورفوفها انتهى عمرها الافتراضي أو فاسدة، دع عنك غياب العديد من الادوية في كثير من الحالات.
وأستميح القارئ هنا بأن أشير على سبيل المثال لا الحصر الى واحد من هذه الادوية الفائقة الضرورة الا هي حبوب «الوارفرين« التي تساعد المريض على تدفق الدورة الدموية في جسمه، وتعطى لفئة من مرضى القلب لتفادي تعرضهم الى جلطات مميتة. فمن واقع تجربة شخصية فقد اعتدت منذ نحو عشر سنوات أو أكثر أن اصطحب الوالدة الى مستشفى السلمانية كل اسبوعين او ثلاثة اسابيع لإجراء تحليل لدمها وبناء على التحليل تعطى حبوب «الوارفرين« بالمقياس المناسب حسب نتيجة التحليل، ولكنني فوجئت في احدى المرات الاخيرة باختفاء هذه الحبوب الفائقة الاهمية من صيدلية المستشفى باستثناء بضع حبات مما عرضها لاحقا الى انتكاسة مرضية بالغة الخطورة شارفت بسببها على الموت لولا عناية الله سبحانه وتعالى وتدارك بعض اطباء قسم الطوارئ والخيرين الذين قرروا على الفور ترقيدها، ولم تتوافر الحبوب هذه الا بعد فترة لاحقة.
وخذ على سبيل المثال هذا الازدحام المتزايد غير المسبوق في الصيدلية المركزية الوحيدة في الدور الارضي بمستشفى السلمانية من دون توسيع لا محلها ولا اقامة صيدلية اضافية واحدة أو اثنتين أخريين في المستشفى ذاته وزيادة كذلك عدد العاملين في هذه الصيدلية، هذا على الرغم من ضخامة مستشفى السلمانية وما شهده من توسعات عمرانية متعددة في مرافقه، وهكذا يتحتم على العديد من المرضى ان يتجشموا مشقة السير من مسافات طويلة من مرافق وردهات المستشفى الطويلة والمتباعدة لبلوغ الصيدلية المركزية ثم انتظار دورهم الرقمي الآلي بالمئات لفترة لا تقل عن ساعة واحدة في معظم الحالات. أما فيما يتعلق بمشكلة الأدوية المزورة، فلا أعتقد ان البحرين خالية تماما من هذه المشكلة، فاذا كانت هذه المشكلة لا تعاني منها دول العالم الثالث فحسب، بل حتى الدول المتقدمة المعروفة بتقاليدها في الديمقراطية والشفافية، وإن بنسبة تصل الى 1% فقط فما بالنا بالبلدان العربية ومنها بلادنا حيث تقدر نسبة الادوية المزيفة في العالم الثالث، حسب «الفاينانشيال تايمز« بـ 10%؟ وبالتالي فمن الاهمية بمكان تشديد الرقابة في هذا الشأن حتى لو كانت نسبة المزوّر من الادوية لدينا متدنية.
وأخيرا فمن الأهمية بمكان ان يتعاون اهل الخير وكل الجهات الخيرة من مؤسسات تجارية وأثرياء مع وزارة الصحة لإقامة مشاريع خيرية كإقامة جمعيات صيدليات تعاونية بأسعار مناسبة ان لم تكن رمزية فعلى الأقل معتدلة غير مبالغ في ارتفاعها، كما من الأهمية بمكان ان تتعاون هذه الاطراف للحاق بركب دول مجلس التعاون في اقامة مشاريع لتصنيع الأدوية.
صحيفة اخبار الخليج
24 يونيو 2008