طالعتنا الصحافة المحلية في مملكة البحرين عن كل ما دار حول مقتل المواطن البحريني على يد العامل البنغالي وبسبب نوعية الجريمة البشعة الإرادية أو غير الإرادية في نمطها وظروفها فان النتيجة أمامنا غياب إنسان من الحياة والوطن كان بمثابة خسارة إنسانية في نهاية المطاف وألم كبير لعائلته.
وبسبب نوعية الجريمة عادة يهتز أي مجتمع هادئ بطبيعته وصغره كما هي الجرائم في القرى الصغيرة النائية في البلدان الكبيرة التي عادة تعج بمظاهر الجريمة كبريطانيا والولايات المتحدة وغيرها.
وبسبب تزايد حجم العمالة في العقود الأربعة الأخيرة فقد قدمت لنا الدراسات الاجتماعية والنفسية في منطقة الخليج وغير الخليج أن العمالة الوافدة لكل مجتمع لا تحمل معها فقط عملية تنمية ومؤثرات عديدة ايجابية وحسب بل وهناك مظاهر سلبية كثيرة للغاية بما فيها قضايا الجريمة، ولكننا عادة لا نهتم بحجمها لكونها لا تهمنا حالما تدور في وسط تلك العمالة أو فيما بين جنسيات مختلفة داخل تلك العمالة الأجنبية.
ما قدمته ويقدمه منطق الأرقام والإحصائيات خلال تلك العقود حول الجريمة وعن أنماطها يدلل على حقيقة وجودها وعن تصاعد أرقامها؛ فثقافة تلك العمالة تنقلها لنا تلك العمالة ليس بسبب ما تتميز به من ملامح سوسيو-ثقافية وحسب، وإنما في اغلب الحالات كونها تنتمي لشرائح دنيا من تلك العمالة؛ فمن يعيشون أوضاعا رغيدة في بلادنا من العمالة الأجنبية لا يشكلون رقما كبيرا في عالم الجريمة إن لم نقل إنها نادرا ما تحدث على الرغم من أن أعدادهم كبيرة نسبة لنخبة مجتمعات معينة وجنسيات معينة، بل كونها تنافس النخب المحلية أيضا، وتتفوق عليها لكونها تمنح امتيازات خاصة لا يجدها المواطن المحلي، فيما تعيش العمالة الأجنبية الدنيا حياة العبيد والضغوط اليومية النفسية والاقتصادية والإنسانية التي نعرفها، فتنتج احتكاكا يوميا فيما بينها في المسكن والمعيشة، فتتعارك بعنفوان، تصبح عملية القتل سهلة جدا، فلا قيمة للحياة وسط بشر يعيشون عيشة البهائم والدونية. وبذلك لا نستغرب من أي عمالة أجنبية شبيهة أن تمارس الممارسات ذاتها مع نفسها ومع عمالة أجنبية مماثلة لها أو مواطنين من بلادنا.
فكيف العمل إزاء عمالة نحن كنا بالأمس نخشاها ونحذر منها وفي وقت ما قمنا بتعاطف معها وبررنا وجودها الإنساني والديني، فما كان من الاتجاهات الدينية إلا بالدفاع عنها ثم نجدها اليوم تهرول بسرعة لترحيلها بصورة لا إنسانية !! فلا نفهم تلك المواقف ومن جهة أخرى هناك أصوات إنسانية وتقدمية بدت تدرك بشكل أعمق أن المسألة ليست في الصدامات والاحتكاكات الإنسانية والاجتماعية بين فرد وآخر وإنما هناك دوافع ومسببات أعمق من ظواهر شكلية كالمشاجرات التي تدفع شخص بقتل شخص آخر لمجرد منازعات بدت بالانفعال وانتهت بالقتل فصارت تلك الجالية برمتها في عين المجتمع امة وحشية دفعة واحدة !!
فيما نصمت عن جنسيات أخرى كثيرة في إمكانها أن تنتج قضايا مشابهة إذا ما وقعت لها ظروف مماثلة فليست الجريمة غريزة قومية أو أثنية أو دينية وغيرها. ندرك بعمق مرارة مجتمعنا الطيب الذي يفزع بسرعة لكل الم ويتعاطف لما هو عميق إنسانيا وهذه صفة حميدة لمكونات العلاقات الطيبة بين شعبنا. ولكن إذا ما هدأنا قليلا بعد أيام من المحنة لوجدنا أن ما مارسه من قتل يومي مقاولونا وتجارنا وكل الملاكين الصغار الراكضين وراء الأرباح باستغلال العمالة الأجنبية تبلغ أحيانا الصفع والمهانة التي يكتمها ذلك الإنسان ولكنها تتراكم في داخله بصمت حتى تتحول إلى وحشية البهيمة في أقفاصها إذا ما قمنا بتجويعها حد الانفجار.
من مارسوا يوميا لذة الكسب من وراء تلك العمالة لم يلتفتوا حقيقة لمعنى الدراسات حول الوجه الآخر للعمالة الأجنبية متناسين أن لذة الكسب والربح ليست وحدها الدافئة على مدى سنوات طويلة، وإنما النتائج المؤلمة أيضا تخزينا وتحرك ضميرنا واحتجاجنا الصحي والسلبي في بعض الأحيان.
أسعدت كثيرا بظاهرة جديدة وهي ثمار الانفتاح في رحلة المناخ الديمقراطي والصحافة الحرة هو بكثرة الكتابات والحوارات حول ظاهرة “القاتل البنغالي”! وزيادة حراك المجتمع المدني والمنظمات المرتبطة بحقوق الإنسان وتبادل العائلات والأفراد بجدية أو لا مبالاة لكل ما يدور في المجتمع من ظواهر تهز وجدانه.
فالمهم أن نعمق رؤية الرأي العام ونزيد من وعيه للحوار ولكل ما يجعل مجتمعنا يؤسس لدولة القانون بل وينتقد حتى الوزارات بكل إجراءاتها المستعجلة حتى وان كانت إجراءات وزارة الداخلية التي فسرت الإجراء بأنها بدأت تهتم بمستوى العمالة، ولعلنا نجد ذلك إجراء حقيقياً فعالاً إزاء كل الجنسيات فليست وحشية البنغالي قادمة من كوكب آخر! وليست البحرين وحدها تعيش هذه الظاهرة بل كل البلدان التي تستقبل العمالة الأجنبية في بلدها وتحولها إلى سوق سوداء للدعارة والنخاسة ابتداء من المكسيك مرورا بشرق آسيا وانتهاء بأوروبا الشرقية وأفريقيا المهاجرة نحو نعيم الغرب، كل هؤلاء في مجتمع ما بعد الحداثة والعولمة يقدمون لنا نماذج تراجيدية للبؤس والفقر والمجاعة موازية لعصر الفضاء والثورة المعلوماتية.
فهل نكون وحدنا العالم المهتز الذي يبحث عن الحصانة المثلى في وقت تقدم بلدان مجلس التعاون نفسها كظاهرة استثنائية لاستيراد العمالة الأجنبية بدرجة هزت كيانها السكاني وهويتها الثقافية؟!
فلماذا نستغرب الجريمة “الأجنبية” بيننا ؟! هل نجحنا في بناء الغيتو السكاني بجدار عنصري لكي نعزل حياتنا الهادئة عن مجتمع الجريمة؟
مع كل محبتي وألمي الإنساني العميق لفقدان عائلة الدوسري لابنها إذ كان بالإمكان أن يكون شخصاً آخر مكانه فيما لو حدثت ظروف وشروط مماثلة.
الأيام 22 يونية 2008