لحكمة يعلمها الله قفز مصطلح “الاستراتيجية” إلى بؤرة اهتماماتنا فجأة، وأصبح لهذا المصطلح جاذبية أخاذة تغري كثيرين بتداوله بكثرة هذه الأيام، وهو في حد ذاته أمر له دلالة إيجابية، رغم أن البعض يتعامل ربما لأسباب استراتيجية مع المصطلح كشعار إعلامي.
لم يتوانَ كثيرون عن الدعوة أو المطالبة أو الإعلان عن وضع أو تبني استراتيجيات في عدد مهم من مجالات إدارة شؤون المجتمع والدولة، والهدف هو توفير أفضل الفرص لتطوير قدرات المجتمع في اطار حزمة من السياسات التي يفترض أن تتوقف على حسن التقدير والتدبير من حيث الإجراءات والتوقيت السليم.
في الآونة الأخيرة شهدنا مناخاً هيأ الجو لتداول ربما غير مسبوق لمصطلح “الاستراتيجية” ويكاد أي حديث عن مجريات الأمور في البلاد من قبل أي مسؤول يقترن بالإعلان عن استراتيجية هنا، أو دعوة إلى وضع استراتيجية هناك، وصرنا نسمع ونقرأ عن مسعى هنا، واتفاق هناك، ورصد ميزانيات عن استراتيجياتنا وخطط استراتيجية للتأكيد على أننا نمضي في الاتجاه السليم.
واذا تتبعنا بعض الذي أثير في هذا الشأن فسوف نجد المشهد ممتلئا بصور كثيرة ربما منها ما يلي :
- مجلس الوزراء وجه إلى وضع استراتيجيات في أكثر من مجال، أحدها لتوفير مخزون استراتيجي للسلع والمواد الغذائية، وثانية لتوفير مخزون استراتيجي من مواد البناء وإقامة تحالفات وشراكات استراتيجية وصناعات في القطاعين المذكورين.
- مجلس التنمية الاقتصادية أعلن أنه يتبنى وضع استراتيجية للنهوض باقتصاد البحرين فيها عناصر ومحاور وخيارات ضرورية تؤثر على شكل الاقتصاد الذي نريده حتى عام ٠٣٠٢.
- شركة ممتلكات القابضة الحكومية التي تمتلك ٤٣ شركة منها ما تشكل نسبة الحكومة فيها ٠٠١٪، أعلنت عن استراتيجية استثمارية للتوسع الدولي.
- بعض الوزارات والأجهزة الرسمية أعلنت عن تبني استراتيجيات في عدة مجالات، منها استراتيجية وطنية للشباب، وأخرى استراتيجية وطنية لتمكين المرأة، واستراتيجية لتطوير التعليم، واستراتيجية لإصلاح التدريب.
- غرفة التجارة طالبت باستراتيجية قصيرة الأجل ومتوسطة وبعيدة لضمان إمدادات البحرين من المواد الغذائية، ومواد البناء والإنشاء وتشجيع إقامة صناعات محلية وبناء تحالفات استراتيجية في القطاعين المذكورين بين أصحاب الأعمال البحرينيين ونظرائهم من الدول الشقيقة والصديقة.
لعل ذلك يتيح لنا الحديث على مصراعيه عن مجموعة الاستراتيجيات التي كنا ولا نزال في حاجة إليها، والتي يؤمل أن تجعلنا في وضع أفضل فيما يتعلق بمجريات أمور كثيرة من جوانب إدارة شؤون المجتمع وقضاياه التنموية والاقتصادية، ومن منطلق فهمنا بأن الاستراتيجيات يفترض أنها تستهدف التعامل مع المتغيرات المحورية التي يراد تحريكها أو مزجها أو التعاطي معها لتكوين مدخل متناسق العناصر يحدد الأهداف والمحاور والأولويات وآليات التنفيذ، وبأن الاستراتيجية تعتبر أداة من أدوات التخطيط واستشراف المستقبل المستهدف الذي ينطوي على مرتكزات إبداعية في الرؤية والقدرة على التحليل والتشخيص والتصدي والمعالجة وتحديد نقاط القوة والضعف.
اذا فهمنا الاستراتيجية على ذلك النحو وبأنها نقيض الغفلة والتخبط، فإننا وبعد أن وجهنا قدراً كبيراً من مواردنا إلى مشروعات لا يمكن أن تحتل المرتبة الأولى في سلم الأولويات، فإننا وبمنتهى البراءة وحسن النية نريد أن نبحث في الاستراتيجيات التي نحتاجها، وفي أي مجالات نحتاج، ودعونا نطلق العنان لمخيلتنا ونمضي في السؤال :
- ما هي استراتيجية الدولة في مواجهة المشاكل المزمنة التي تحتاج إلى معالجات مبرمجة بعيداً عن الارتجال والتهوين من حجم التحديات الراهنة والمقبلة؟
- ما هي استراتيجية الدولة لتحقيق الاستغلال الأمثل لمواردنا الوطنية، واستثمار الزيادة الكبيرة في الفوائض النفطية؟
- ما هي استراتيجية الدولة في جذب رؤوس الأموال التي تشكل قيمة مضافة إلى اقتصادنا وتضيف إلى الطاقات الإنتاجية وإلى التوظيف؟
- ما هي استراتيجية الدولة لمواجهة التضخم الجامح الذي يعصف بحياتنا ويثير الخوف من المستقبل، وهو التضخم الذي قال عنه الاقتصادي “كينز” بأنه أسوأ ما يصيب أي مجتمع؟
- ما هي استراتيجية الدولة في مواجهة تزايد حدة التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية، ومكافحة الفقر، وتحويل الأيدي المتسولة إلى أيدٍ منتجة، وحماية الطبقة الوسطى التي تعيش حالة “اندمار” غير مسبوق؟
- ما هي استراتيجية الدولة في مجال ربط الإصلاح الاقتصادي بالإصلاح الاجتماعي والسياسي، وتعزيز الديمقراطية؟
- ما هي استراتيجية الدولة في مجال التصدي للتجاوزات وتفكيك منظومة الفساد والتربح من الوظائف العامة؟
- ما هي استراتيجيات الدولة في مجالات مثل حماية الجبهة الداخلية، ومواجهة مظاهر ومخاطر الطأفنة وكل ما يكرس الانقسام بين أبناء البلد الواحد، رفع كفاءة الجهاز الحكومي عبر الإصلاح الإداري، السياحة، توفير الموارد المائية، البيئة، الخصخصة، والعلاقة مع السلطتين التشريعية والقضائية وتطوير النظام القضائي، ومع تفعيل الشراكة مع مؤسسات المجتمع المدني، وفي مجال التكنولوجيا والبحث والتطوير، والثقافة والفنون والآداب، وفي مجال تعزيز الإنسان والحريات، وفي مجالات أخرى عديدة.
هل لدينا استراتيجيات في أي من تلك المجالات؟ استراتيجيات معلنة، وواضحة في أهدافها ومنطلقاتها وأولوياتها وبرنامجها الزمني، استراتيجيات تنطلق من معرفة لما يعانيه واقعنا من مظاهر ضعف وخلل وهي كثيرة وأوجه قوة وهي كثيرة أيضاً، استراتيجيات تشكل نهجاً يعكس عقلية نيّرة توجه العربة نحو سكة السلامة التي تؤدي إلى تشييد الدولة على أساس أقوى في كل المجالات والقطاعات.
السؤال مطروح، آملين من المعنيين بالأمر أن يفيدونا أفادهم الله.
صحيفة الايام
21 يونيو 2008