المنشور

بين الوعي القومي والوعي الديمقراطي

إذا كانت نكبة 1948 الفلسطينية افضت موضوعيا إلى تنامي الشعور القومي المشترك وتعمقه جنبا الى جنب مع صعود التيارات والحركات القومية العربية التي حظيت بشعبيات عربية متفاوتة لاتكائها على النكبة ذاتها كعامل رئيسي من عوامل اذكاء الشعور القومي ورفع شعار تحرير فلسطين كمهمة قومية عربية ملحة لا مهمة فلسطينية فقط، فان نكسة يونيو 1967 ايضا وتحت مبرر هذا الشعار ذاته اضحت موضوعيا اداة من ادوات كبح الوعي والتطور الديمقراطي في البلدان وبقدر ما كانت النجاحات التي حققتها التيارات والحركات والقيادات القومية في استقطاب الجماهير العربية وبناء شعبياتها متكئة على “النكبة” وتحت شعار تحرير فلسطين العربية من المحتل الصهيوني الغاصب هي نجاحات تؤكد على نحو قاطع وجود هذا الاحساس القومي المشترك تجاه القضية الفلسطينية لدى الشعوب العربية قاطبة وان هذا الشعور الكامن ليس سوى احساس غريزي بحاجة الى بلورة وصقل وتثوير، بقدر ما استغلت غالبية التيارات والحركات والقيادات القومية تلك النجاحات لتبرير الاستمرار في تغييب الحقوق الدستورية والديمقراطية بعد هزيمة 67، وهي لطالما نجحت في خداع الجماهير والشعوب في هذا التبرير.
وكان تغييب الديمقراطية يأخذ شكلين متوازيين: تغييب الديمقراطية عن حياة الاحزاب والحركات القومية الداخلية حيث يكون زعيم الحزب هو صاحب السلطة الابوية المطلقة في اتخاذ القرارات المصيرية وحيث بسبب هذا التغييب لطالما تعرضت تلك الاحزاب والحركات للانشقاقات المتعاقبة وبموازاة هذا التغييب يأتي تغييب الديمقراطية والحكم الدستوري في الانظمة التي قادتها احزاب او قيادات قومية. ان نجاح الاحزاب والحركات القومية في اعاقة وتشويش نمو الوعي الديمقراطي لدى الجماهير العربية بتسييد شعارات “تحرير فلسطين” و”الوحدة العربية”، كشعارات ملحة، على شعارات ومطالب الديمقراطية والحقوق الدستورية لهو يؤكد بجلاء في ذات الوقت ان الوعي والاحساس القومي هو حقيقة موضوعية وجدانية مستقرة، ان غريزيا وان على نحو ملتبس كامن في وجدان الشعوب العربية كافة. وما واحد من ابرز اخطاء الاحزاب والحركات اليسارية والاسلامية سوى عدم ادراكهم المعمق البعيد النظر لهذه الحقيقة ونفيها بالمطلق.
فلو لم يكن الاحساس القومي قويا ومؤثرا في افئدة قطاعات عريضة من الشعوب العربية فيم نفسر نجاح الحركات والقيادات القومية في استقطاب قطاعات واسعة من جماهير هذه الشعوب؟ ألم يكن واحدا من أبرز العوامل التي استطاعت بموجبها الانقلابات العسكرية القومية المتعاقبة تحقيق التفافات شعبية حولها بهذا القدر أو ذاك لانها رفعت شعار “تحرير فلسطين” وتحقيق الوحدة العربية وطعنت في الانظمة التي انقلبت عليها لانها خانت هذه الشعارات، أو لانها كانت وراء الاسلحة الفاسدة التي حاربت بها جيوشها في فلسطين؟
ومن المفارقات في خصائص التطور الاجتماعي والسياسي في التاريخ المعاصر للبلدان العربية انه إذا كانت نكبة 1948 هي الذريعة التي تذرعت بها الانظمة القومية لتأجيل الاستحقاقات الديمقراطية والدستورية فان هذا التأجيل هو الذي افضى لاحقا الى وقوع كارثة يونيو/ حزيران .1967 وحتى بعد وقوع هذه الكارثة رفعت شعارات “ازالة آثار العدوان” و”لا صوت يعلو على صوت المعركة” لتبرير استمرار تأجيل الاستحقاقات الاصلاحية الدستورية والديمقراطية.
وهكذا نرى ان التطور الديمقراطي في المجتمعات العربية أو على الادق تنمية وتطوير الوعي الديمقراطي في هذه المجتمعات يمر بخصوصية وسمات متفردة لا وجود لها او مثيلها في أي مجتمعات اخرى وهذه الخصوصية تتمثل على وجه التحديد في تداخل وتشابك المهمات التحررية الوطنية، وبضمنها ذات الابعاد القومية، بالمهمات والقضايا الديمقراطية، وحيث كثيرا ما يؤدي هذا التشابك الملتبس الى نجاح القوى القومية الى اكساب الاولى (المهام التحررية والقومية) أولوية ملحة على الثانية (المسألة الديمقراطية) وفي المرحلة الراهنة تقوم القوى الدينية بنفس الدور عبر محاولة التلاعب بوعي الجماهير من خلال تزييف وعيها القومي والديمقراطي معا بالشعارات الاسلامية.
ولعل واحدا من ابرز مهام الاصلاحات الفكرية الراهنة الانية لقوى التغيير العربية هو بناء واعادة ترتيب اولوية المهام الانية بكل شعاراتها وعدم فصل بعضها عن بعض، أو تبرير ارجاء الاصلاحات الدستورية والديمقراطية تحت أي ظرف كان باعتبار هذه الاصلاحات هي الاداة وهي القاعدة وهي المنطلق لبلوغ تحقيق سائر الاهداف التحررية والقومية والاجتماعية في حزمة واحدة مترابطة.
 
صحيفة اخبار الخليج
17 يونيو 2008