المنشور

حكايات من تاريخنا (59)

شهركان القرية والإنسان في واحد من الأحاديث اللافتة لصاحب السمو الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء لدى التقائه المواطنين، أعرب سموه عن حنينه واشتياقه إلى أن يسوق سيارته بنفسه ليتجول بين شوارع مدن وقرى البلاد كأيام زمان لولا ان الظروف المستجدة المعروفة تحول دون ذلك. هذه المشاعر الإنسانية الاجتماعية التي عبر عنها سموه في مجلسه الأسبوعي ذكرتني على الفور بكتاب لزميل الدراسة الأخ صالح حسين أهداني إياه وكنت أتحين الفرصة المناسبة لتناوله في هذه الزاوية التاريخية، وكان قد صدر عام 2006م تحت عنوان “شهركان القرية والإنسان”، كما حضرت للمؤلف محاضرة حول الكتاب نفسه أقامها مركز جدحفص الثقافي بعد صدور الكتاب.
فمن ضمن ما تناوله المؤلف من مواقف ومصادفات طريفة ما ورد تحت عنوان “هطول الأمطار وذكرياتها”، يروي الموقف التالي الذي صادفه ذات أمسية شتوية مع سمو رئيس الوزراء بمعية شقيقيه الأمير الراحل الشيخ عيسى والشيخ محمد، وهو موقف يعبر بشفافية عن بساطة تلك الأيام الخوالي، حيث يقول المؤلف: “ومن الذكريات المتعلقة بوادي الصخير والتي لا تنسى هي أنه في إحدى الليالي من فصل الشتاء كنا مع العم الحاج محمد والوالد رحمهما الله عائدين حوالي الساعة الحادية عشرة ليلا من المعامير أيضا وعندما وصلنا إلى قرب مسجد سبسب – الموجود جنوبي قرية دار كليب- كانت هناك سيارة سبور متوقفة على يمين الشارع وكان هناك شخص واقف رافعا يده طالبا المساعدة. توقف العم الذي كان يسوق السيارة وترجل من السيارة ليرى أمامه صاحب السمو الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس مجلس الوزراء.
الشيخ خليفة وأخواه الشيخ عيسى الأمير الراحل رحمه الله والشيخ محمد كانوا على معرفة بالعائلة، ولذلك فإن العم والوالد وسمو الشيخ خليفة تعرفوا على بعض وقد علموا أن سيارة الشيخ خليفة كانت متعطلة وتحتاج إلى تصليح. نزلت معهم للسلام على سموه وحاول الوالد إصلاح السيارة من غير فائدة.
بعد ذلك طلب الشيخ خليفة من العم إيصاله في سيارة اللوري التي كنا نستقلها إلى مزرعته البحرية في الصافرية. وقد ظل سموه راكبا على العتبة التي كانت جنب باب السائق – تسمى الدوسة – ومتشبثا بيديه بمقبض المرآة العاكسة وكان كذلك متلثما بغترته حتى أوصلناه إلى المزرعة فشكرنا على ذلك ودخل المزرعة التي كان فيها قصر سموه. وقد كانت المسافة من مكان توقف سيارته حتى مزرعته حوالي أربعة كيلومترات«. ولعل هذا الموقف كما رواه الكاتب هو أهم المواقف والمصادفات الطريفة التي سردها المؤلف بسليقة عفوية واضحة جديرة بالتدوين لما تعبر عنه تلك المصادفة من دلالات سياسية واجتماعية غير خافية عن العين لكونها ترتبط بشخصية قيادية مهمة ذات وزن كبير ممثلة في سمو رئيس الوزراء الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة.
على أن كتاب “شهركان القرية والإنسان” لصالح حسين حافل بالكثير من الحكايات والطرائف والمواقف الممتعة الأخرى التي لا تخلو أيضا من دلالات اجتماعية وتاريخية وتراثية مفيدة والتي تناولها الكاتب في سياق فصول الكتاب الثمانية والتي جاءت على النحو التالي:
الفصل الأول: نبذة عن القرية، وقد تناول فيه المؤلف موقع القرية على خريطة البحرين، وسكانها ووصفا لمنازل القرية، ومساجدها والعيون التي اشتهرت بها، ومزارعها ومظاعنها ومقابرها ومآتمها ومؤسساتها التعليمية ومجالسها الشعبية.
الفصل الثاني: الزراعة، ويتناول فيه الكاتب ذكرياته عن العمل في حقول القرية، وزراعة النخيل والعناية بها وهطول الأمطار وذكرياتها.
الفصل الثالث: الصيد، ويستعرض فيه المؤلف ذكرياته مع أسراب الجراد التي تداهم المزارع وكيفية تعامل المزارعون وأبناء القرية معها، والطيور وأنواعها وموسم الحداق (القنص) والأسماك البحرينية الشهيرة التي يصطادها أهالي شهركان ويعتمدون عليها في غذائهم وتجارتهم بها.
الفصل الرابع: وقد خصصه الكاتب لعادات وتقاليد القرية، كالفزعة والحرف والعادات التي تمارس في المجالس، والأكلات الشعبية.
الفصل الخامس: وقد تناول فيه المؤلف ذكرياته خلال مراحل الدراسة بدءا من الابتدائية ومرورا بالخميس الإعدادية التي زامله صاحب هذه السطور فيها، وانتهاء بالدراسات العليا.
الفصل السادس: وقد روى فيه الكاتب حصاد تجاربه في العمل في عدد من بنوك البلاد.
الفصل السابع: وهو عن انطباعاته حول تجربته في العمل التطوعي الاجتماعي في مؤسسات المجتمع المدني بالقرية ممثلة في عدد من أندية المنطقة.
الفصل الثامن والأخير: وقد خصصه المؤلف لرجالات القرية الراحلين، وختم هذا الفصل بصور تاريخية نادرة ثمينة لعدد من المناسبات الاجتماعية التي كانت تحييها شهركان، مثل طبخ ولائم الزواج وتطوع الشباب الجماعي لبناء مأتم القرية اعتمادا على سواعدهم، ونماذج من بيوت القرية كما بدت بتصاميمها المعمارية الشعبية القديمة. والحال ان كتاب الأخ صالح حسين “شهركان القرية والإنسان” هو واحد من الكتب التاريخية التراثية التي أخذت تصدر تباعا منذ نحو عقدين أو أكثر ويتناول فيها مؤلفوها بالتعريف كل ما يتعلق بمدنهم وقراهم التي ولدوا وعاشوا فيها من مجالات اجتماعية وتعليمية وثقافية ودينية ورياضية وفنية ومهنية بما في ذلك العادات والتقاليد وغير ذلك من جوانب تراثية وفلكلورية وتاريخية.
لكن ميزة هذا الكتاب انه من الكتب القليلة التي أجاد مؤلفوها تأليفها وفق منهجية علمية في تبويب الكتاب واختيار عناوينه المناسبة والتقاط أهم المعلومات والحكايات والأنسب لموضوع الكتاب.. نقول هذا بصرف النظر عن منهجية المؤلف في الأسلوب والتوثيق عند سرد تلك المعلومات والحكايات، والتي ليس هنا موضع تقييمها. كما وينم أسلوب تعبيره عن موهبة كتابية بالنظر إلى عدم تخصصه في هذا النوع من التأليف البحثي الاجتماعي، إنه كتاب ممتع ومفيد في آن واحد جدير بالقراءة من قبل المغرمين بفضول الاطلاع على صفحات متنوعة من تاريخنا وتراثنا الاجتماعي الثري بحكاياته الجميلة الشائقة التي تعكس عراقة حضارة الإنسان البحريني على هذه الجزيرة الخالدة.

صحيفة الايام
12 يونيو 2008