على مدى 30 عاماً ونيفاً منذ اندلاع الحرب الاهلية عام 19 1975م لم يرأس لبنان رئيس توافقي كاف يحظى بالاجماع او شبه الاجماع الوطني على الأقل بين مختلف فئاته وشرائحه وقواه السياسية والدينية، فمعظم الرؤساء الذين تعاقبوا على الرئاسة خلال هذه الفترة الطويلة، ان لم يكن كلهم، إما جاءوا الى سدة الحكم في ظل انقسام سياسي وطائفي خطير، وبعضهم بالقوة العسكرية، لا بل وبعضهم الآخر على ظهر دبابات الاحتلال الاسرائيلي ابان الاجتياح الاسرائيلي عام 1982م، وإما جاءوا الى الحكم في ظل غياب ارادة وطنية لبنانية كاملة مستقلة وبمباركة لوصاية سورية ابان وجودها العسكري في لبنان وعلى الاخص بعد انتهاء الحرب الاهلية منذ مطلع التسعينيات.
وحتى الرؤساء الذين نجحوا في تحقيق شيء من التوافق والاجماع الوطني فإنه سرعان ما يفشلون في الحفاظ على هذا الاجماع الوطني الهش الذي حققوه ويتركون الرئاسة او يجبرون على تركها بعد انقسام سياسي وديني خطيرين حول استمرار وجودهم في السلطة تميل كفته الى شبه الاجماع على رفضهم ورفض تمديد وجودهم في رئاسة الجمهورية ولاسيما حينما يتم هذا التمديد لهم بضغوط وتدخلات من الوصاية السورية كما حصل على نحو مفضوح امام الملأ العالمي في تمديد ولاية الرئيسين الاخيرين الياس الهراوي وأميل لحود على التوالي. وبعد اتفاق الدوحة بين الفرقاء اللبنانيين والذي تم بمقتضاه انتخاب الرئيس الجديد الحالي العماد ميشال سليمان تلوح اليوم في الافق بشائر عهد جديد مختلف كلياً عن العهود السابقة التي تعاقبت على الرئاسة طوال الحرب الاهلية وفي حقبة ما بعد هذه الحرب منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي حيث امتازت معظم عهود الرؤساء الذين تعاقبوا بالخضوع إما للإملاءات الاسرائيلية والامريكية وإما لاملاءات الوصاية السورية.
فعلاوة على ان الرئيس الجديد سليمان جاء بتوافق وطني واضح من قبل مختلف القوى السياسية والدينية بعيداً عن أي شكل من اشكال التدخلات الاجنبية، امريكية كانت ام عربية، فإن سجل سيرته الذاتية النظيف الحافل بالمواقف التي تشهد له بالنزاهة والاستقامة والتجرد الوطني، ومن ذلك دوره في تصدي الجيش اللبناني للاعتداءات الاسرائيلية على جبهة البقاع خلال التسعينيات، وكشف عدة شبكات تجسس اسرائيلية، ودوره ايضاً في التصدي لاعمال المنظمات الارهابية في مخيم نهر البارد وكذلك التصدي للعدو الاسرائيلي ودعم المقاومة حتى تحرير الجنوب عام 2000م. وما كان الرئيس سليمان ان يحقق كل هذه الانجازات العسكرية والوطنية لولا ما قام به مقدماً من دور وطني في الحفاظ على وحدة المؤسسة العسكرية الوطنية وسط اخطر ظروف من الصراعات والانقسامات بين القوى السياسية والدينية يمر بها وطنه.
وقد جاء خطاب القسم الذي القاه الرئيس العماد ميشال سليمان امام البرلمان الذي انتخبه بشبه الاجماع ليعزز من هذا الرصيد الوطني وذلك لما تضمنه من مرتكزات مبدئية متوازنة تشكل القواسم المشتركة لتوافق اللبنانيين على اختلاف مشاربهم السياسية والدينية. ومما لا شك ان هذا السجل الوطني النزيه الذي يتمتع به الرئيس الجديد المنتخب والذي عزز من رصيده بخطاب القسم وبما باشره حتى الآن من خطوات واجراءات مشجعة للحفاظ على مكتسبات الوفاق الوطني في الدوحة.
على ان نجاح الرئيس الجديد في تعزيز واستثمار رصيده الوطني السابق لكسب رصيد شعبي جديد في ادارة دفة الحكم انما يتوقف على عاملين رئيسين: الأول: مدى تفهم الفرقاء اللبنانيين الذين توافقوا على انتخابه لدوره كرئيس لدولة ذات سيادة ولكل اللبنانيين وبما يقتضيه هذا الدور من مهام وسلطات تعلو على ارادات الاحزاب والفئات. ومن ثم حاجة الرئيس لدعم وتعاون مختلف القوى والاطراف للقيام بهذا الدور والمهام والسلطات. الثاني: مدى قدرة الرئيس الجديد نفسه على ارساء نهج دائم يرتكز على الوقوف قدر الامكان محايداً حياداً ايجابياً وطنياً بعيداً عن تجاذبات الفرقاء في الداخل بما يحفظ الوحدة الوطنية وتماسك الجبهة الداخلية، وبعيداً عن ضغوط وتدخلات القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة. بحيث تكون المصلحة الوطنية العليا الجامعة لكل اللبنانيين هي الفيصل في سياساته الخارجية ومواقفه تجاه القوى الكبرى ولاسيما اذا ما تسنى وقوف الى جانبه حكومة وحدة وطنية تتفهم هذا الدور وتلعبه الى جانب رئيس الدولة.
ولعل واحداً من القرارات الصغيرة الرمزية والكبيرة في دلالاتها التي اقدم عليها الرئيس سليمان مؤخراً والتي لا تخلو من مغزى عميق ودلالات سياسية ليس على صعيد لبنان فحسب بل والعالم العربي قراره بازالة جميع صوره واللافتات التي تمجده بمناسبة انتخابه من الشوارع والميادين العامة. وكما نعلم جيداً فكم أدى تاريخياً الافراط في مثل هذه المظاهر داخل الدول العربية، والتي تتم لاشباع نزوة العظمة لدى قائد الدولة العربية، في تكريس ظاهرة عبادة الفرد ناهيك عن صرف الملايين من الخزانات العربية على ذلك.
صحيفة اخبار الخليج
11 يونيو 2008