ديمقراطية بدون أحزاب سياسية متكافئة الفرص. وإن أحد أهم علائم جدية أي مشروع إصلاحي تكمن في الموقف من الأحزاب السياسية ودورها دون محاباة. بل أنها تعكس الحالة العامة لرقي الدولة. مفكر القرن الثامن عشر الفرنسي أغيسو قال بحق إن ‘الإدارة المتطورة هي تلك التي تتمتع فيها كل الأحزاب بإمكانات متساوية’.
لا تزال القوى السياسية البحرينية تشتكي من تقييدات قانون الجمعيات السياسية رقم (26) لسنة .2005 غير أن شكاواها أصبحت تتعالى في الفترة الأخيرة من ضعف أوضاعها المالية التي تمنع أكثرها، من لعب الدور المناط بها في مقابل القوى التي تمتلك قنوات واسعة، مرئية وغير مرئية، لتدفقات الأموال الطائلة. إن مبلغ 4 ملايين دينار (نحو 6,10 مليون دولار اميركي) التي جرى عنها الحديث لتمويل 15 جمعية سياسية من قبل الدولة للعامين 2006-2007 يعتبر زهيدا جدا إذا ما قورن بإمكانات الدولة وبالدعم المقدم لمنظمات أخرى غير سياسية، وكذلك بالمقاييس العالمية.
من المفيد أن تجري دراسة مقارنة جدية لتجارب عدد من البلدان المتقدمة في هذا المضار للخروج بالنموذج الأمثل لتمويل نشاط الأحزاب السياسية من قبل الدولة بشكل خاص. ولفتح الطريق أمام مثل هذه الدراسة نتطرق هنا بعجالة إلى بعض من التجارب العالمية. وأهمها ثلاث: ألمانيا، فرنسا وروسيا. ألمانيا هي من أوائل من أدخل نظام تمويل الأحزاب في تشريعاتها. أما فرنسا ففي كافة مجالات بناء الدولة تشكل جاذبية عالية للدول الفتية، بما في ذلك نظامها لتمويل الأحزاب السياسية. أما روسيا فدولة عظمى، لكنها تتشابه مع بلداننا من حيث ظروف التحولات الديمقراطية.
تشير التجارب العالمية إلى نوعين من تمويل الدولة – مباشر وغير مباشر. يتجسد الثاني في مجانية استخدام قنوات الإعلام الرسمية، توفير المقرات المناسبة للأحزاب وكتلها النيابية، التسهيلات أو الإعفاء الكلي من الضرائب والرسوم، مجانية المراسلات البريدية. ويمارس التمويل غير المباشر اليوم في خمسين دولة من العالم. أما التمويل المباشر فتمارسه 53 دولة عن طريق مخصصات تحددها ميزانية الدولة. وتختلف طريقة تحديد حجمها من بلد لآخر. ورغم أن كثيرا من بلدان العالم يربط تمويل أنشطة الأحزاب بالانتخابات، إلا أن عملية التمويل تستمر حتى في السنوات التي لا تجرى فيها انتخابات.
ولكل من نظم التمويل في هذه الدول أهدافه السياسية المحددة. لكن الأهداف الأساسية تبقى ممثلة في ضمان استقلالية أكبر للأحزاب السياسية عن المجموعات واللوبيات الصناعية المالية والتقليل من عدم تكافوء الإمكانات في التنافس السياسي بين الأحزاب. فهذا يرسخ مبدأ المساواة الديمقراطية ويعطي لكل مشاركي العمل السياسي إمكانات متساوية للانطلاق. وأخيرا يضمن ذلك إيجاد معايير التحكم في تدفقات المال للأحزاب وتضمن الشفافية الضرورية في أنشطتها.
وضعت في هذه البلدان نماذج لتمويل الدولة للأحزاب، بحيث لا يحصل على الدعم إلا من حظي على، أو تخطى حصة معينة من دعم الناخبين. ففي ألمانيا تحصل على تمويل الدولة الأحزاب التي حصلت على ما لا يقل عن 5,0% من أصوات الناخبين أو 1% في الانتخابات المحلية. في فرنسا يجب أن تبلغ هذه النسبة 5%. أما في روسيا فتوفر الدولة التمويل في حال حصلت قائمة الحزب الفيدرالية على 3% من أصوات الناخبين الذين صوتوا أو حين يتم انتخاب 12 مرشحا في الدوائر الانتخابية ذات المرشح الواحد، أو عندما يحصل مرشح الحزب لانتخابات الرئاسة الروسية على ما لا يقل عن 3% من أصوات الناخبين الذي شاركوا.
هناك دول تطبق نموذجا خليطا من الاثنين مثل أسبانيا. في بعض البلدان يوزع قسم من المخصصات (البرازيل 10%، إيطاليا 15%) كمنح متساوية بين جميع الأحزاب الممثلة في البرلمان. وعدا المخصصات التي يتم توزيعها طبقا لنتائج الانتخابات في بعض البلدان (النمسا، إيطاليا، أسبانيا وغيرها) توضع مبالغ نقدية خاصة تحت تصرف الكتل الحزبية في البرلمان.
وتختلف هذه الدول في طريقة تحديد الحجم العام لتمويل الأحزاب السياسية. في ألمانيا يتم تعويض الأحزاب عن نفقاتها في الانتخابات بنتيجة حاصل ضرب 70,0 يورو في عدد إجمالي الناخبين في المنطقة الانتخابية، و85,0 يورو إضافية عن كل ناخب عندما يتعدى عددهم 4 ملايين شخص. ويوزع هذا المبلغ على الأحزاب في تناسب طردي وعدد الأصوات التي حصلوا عليها. وفي فرنسا تخصص الميزانية سنويا مبلغا ثابتا لدعم الأحزاب السياسية بمقدار 80 مليون يورو. وبخلاف ألمانيا لا يوزع هذا المبلغ حسب عدد الأصوات، بل تناسبا وعدد ممثلي الحزب في البرلمان. في روسيا يحدد المبلغ الإجمالي بمقدار 5 روبلات ( 2,0 دولار) مضروبا في عدد الناخبين المدرجين على القوائم في آخر انتخابات للدوما أو لرئاسة الدولة. ويوزع هذا المبلغ طردا وعدد الأصوات التي حصل عليها هذا الحزب أو ذاك في الانتخابات.
لتفادي التأثيرات السلبية لاعتماد الأحزاب على تمويل الدولة كلية أدخل في التشريع الألماني معيار حقوقي يحدد سقفا لإجمالي تمويل الأحزاب بمقدار 133 مليون يورو في السنة، أو 532 مليون يورو للدورة البرلمانية الواحدة. وبالعكس، في فرنسا جرى منذ منتصف التسعينات ترسيخ اتجاه أن التدفقات الأساسية في ميزانيات الأحزاب السياسية تأتي بدرجة أساسية من تبرعات الأشخاص الطبيعيين، وبدرجة أكبر الأشخاص الاعتباريين، وخصوصا الشركات الصناعية والمؤسسات المالية الخاصة. وبذلك نشأت إمكانية تحول الأحزاب إلى لوبيات لتأثير مجموعات المال صاحبة القدرة. وهذا ما حدا بفرنسا في العام 1995 من جديد إلى إصدار قانون يمنع تمويل الأحزاب من قبل المؤسسات والشخصيات الاعتبارية الخاصة. ومنذ تلك اللحظة أصبحت جميع الأحزاب تعتمد في حملاتها الانتخابية وأنشطتها اليومية على تمويل الدولة بالكامل.
إن دراسة أكثر تعمقا لهذه النماذج المختلفة من تمويل الدولة للأحزاب السياسية يتيح لنا الخروج بالنموذج الأمثل لظروف بلادنا ومنطقتنا وحاجات قواها السياسية لتلعب دورها المطلوب ولتشكل مكونا هاما من مكونات البناء السياسي لدولنا.
صحيفة الوقت
9 يونيو 2008