المنشور

قمة روما تشبع جياع العالم كلاماً

عبر وزير الخارجية الايطالي فرانكو فراتيني الذي استضافت بلاده مؤخراً قمة الأمن الغذائي العالمية عن خيبة أمله في البيان الختامي الذي تمخضت عنه القمة وقراراتها باعتبارها لا ترقى الى ادنى الطموحات التي يتطلع إليها جياع شعوب العالم. كما عبر فراتيني عن “قلقه” لأن قادة الدول الذين اجتمعوا في روما لم يتوافقوا على تدابير اكثر طموحاً في ظل وضع طارئ ومأسوي على الصعيد الغذائي. على ان وزير الخارجية الايطالي بدا وكأنه متفاجىء بنتائج القمة ويريد ان يقنع نفسه ويقنع العالم بصدق صدمة تشاؤمه منها وكأنه يتوقع ان تتمخض القمة ببيان وقرارات غير التي خرجت بها في حين لم يكن سوى المغفلين والبلهاء في العالم هم الذين يتوقعون ان تخرج هذه القمة المهزلة بأكثر مما تمخضت عنه.
 وما ذلك إلا لسبب واحد في منتهى البساطة وهو ان الذين تداعوا الى هذه القمة الانقاذية لانقاذ جياع العالم من الهلاك لم يكونوا، وعلى الاخص الكبار منهم، سوى المتسببين بالدرجة الاولى في الكارثة الغذائية العالمية الراهنة وفي مقدمتهم بالطبع الولايات المتحدة وحلفاؤها من الدول الصناعية الغربية الكبرى الاوروبية. وفي الوقت الذي لا أحد يريد ان يعترف بالمسببات الحقيقية السياسية الاقتصادية لكارثة الجوع الحالية والمرتبطة مباشرة بموجات ارتفاع الغلاء التي ضربت مختلف دول العالم قاطبة فإن المتسببين الرئيسيين في خلق الكارثة يحاولون عبثاً التفتيش عن عوامل هامشية ليلقوا عليها كامل المسؤولية مثل دور الوقود الحيوي في صنع الازمة والنقص في انتاج المحاصيل الزراعية.. إلخ.
ودون التقليل من تأثير هذه العوامل في خلق الازمة الا انها تبقى في النهاية عوامل مساعدة وليست عوامل رئيسية سياسية – اقتصادية. ولعل جاك ضيوف المدير العام للفاو (منظمة الاغذية والزراعة) التي نظمت القمة هو من اكثر كبار المسؤولين في القمة الذين اقتربوا من التلميح للجذور والابعاد السياسية للأزمة وان كان حذراً بحكم منصبه الدولي في هذه المنظمة من توجيه اصابع الاتهام مباشرة الى جهات دولية بعينها، حيث صرح في افتتاح القمة قائلا: “ان مشكلة الأمن الغذائي “طبيعتها سياسية” ويتعين المسارعة الى اتخاذ الاجراءات الشجاعة التي يفرضها الوضع لتجنيب العالم وضعا خطيرا”.
وهكذا لم تكن قمة روما على مستوى المسؤولية الانسانية العالمية مطلقا، فحينما تعترف القمة بوجود 37 دولة في احتياج انقاذي عاجل لمساعدات غذائية من الخارج، وحينما تعترف باشراف ما يقرب من مليار انسان على الهلاك من الجوع الشديد او سوء التغذية من جراء الارتفاعات الحادة في اسعار المواد الغذائية، وحينما يشير امين عام الامم المتحدة بان كي مون الى القيود المفروضة على التجارة وفرض الضرائب كأحد عوامل خلق الازمة.. نقول حينما يجري الاعتراف بكل ذلك ولا يخرج عن القمة سوى ذلك البيان الهزيل الذي لا يغني ولا يسمن عن جوع بالمعنى الحرفي والمجازي لهذا القول المأثور، فما كل ذلك الا تأكيد غياب الحد الادنى من الشعور بالمسؤولية الانسانية العليا وغياب الاحساس بتأنيب الضمير تجاه عشرات ملايين البشر المنكوبين بالكارثة والذين ينتظرون حتفهم تباعاً من جرائها في أي لحظة.
لم يستطع جاك ضيوف ازاء مهزلة هذا البيان الختامي سوى مناشدة قادة العالم لتأمين 30 مليار دولار سنوياً لتفعيل منتوج قطاع الزراعة لانقاذ العالم وستظل هذه المناشدة مجرد “مناشدة”. أما اكثر التصريحات مدعاة للسخرية المبكية فقد جاءت على لسان مساعدي ضيوف نفسه بأن القمة نجحت في “توليد وعي جديد بمسألة الفقر وارتفاع اسعار المواد الغذائية المتزامن مع النقص الكبير في انتاج المحاصيل الزراعية”. وإذ كان تقرير للبنك الدولي صريحاً قبل ايام من القمة بدعوته الى اصلاح السياسات المؤدية الى الغلاء فإن هذا البنك يتناسى او يتجاهل دور سياساته ونصائحه وسياسات الولايات المتحدة التي تهيمن عليه في خلق الازمة الاقتصادية العالمية الراهنة برمتها والتي افضت الى موجات ارتفاع الاسعار والبطالة وتدني الاجور والتسريحات الجماعية من العمل. اما وقد لم يخرج من قمة روما سوى عسل الكلام فإن الكلام يظل كلاماً لا يلقم افواه مليار جائع في العالم.
معونة الغلاء ها هي الشهور تمضي اثر الشهور، ومازالت ملحمة توزيع معونة الغلاء على متدني الاجور في القطاعين العام والخاص على حالها محلك سر لا تكاد تتحرك فيما ملحمة موجات الغلاء تتواصل آكلة الاخضر واليابس ان يكن ثمة اخضر يتيم تبقى في حياة هؤلاء الناس المعيشية. لقد زهق هؤلاء الناس من ذوي الاجور المتدنية وملوا من الانتظار الذي امتهن كرامتهم امتهاناً، دع عنك امتهانها من تواضع المعونة حتى زهدوا في الكلام والمطالبة بها او الاستفسار عن موعد ولادة القائمة الجديدة حيث لم تصدر سوى قائمتين لا تغطيان الشطر الاعظم من المستحقين. ولم يبق لهؤلاء الغلابة من أمل سوى تدخل سمو رئيس الوزراء شخصياً لوضع حد سريع لهذه المماطلة ومسلسل التعقيدات البيروقراطية التي تحول دون ولادة قوائم المستحقين مرة واحدة.
هكذا مر “يوم البيئة” الشكوى من ظاهرة انحسار العمل الجماعي في مختلف مؤسسات المجتمع المدني هي شكوى عامة ومزمنة إذ باتت افضل الجمعيات حالاً هي تلك التي تحظى بثلة من الاعضاء الفاعلين الذين لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليدين. على أن المأساة تعظم حينما يكون في عداد هذه الجمعيات جمعيات تعظم الحاجة الماسة لدورها وفعاليتها في المواقف واللحظات الحرجة العصيبة التي تواجه الناس خلالها قضايا طارئة بحكم اختصاص تلك الجمعيات في ظل غياب كامل لتلك الجمعيات وكأنها غير موجودة فلا تجد الناس من يناصرها ويتضامن معها في تلك المواقف.
واذا كنا بالأمس قد اشرنا غير مرة لغياب دور الجمعيات الحقوقية شبه الكامل عن قضية الثمانية، فلننظر اليوم الى الغياب الكلي لجمعيات البيئة عن احداث ووقائع متلاحقة تمس ليس اوضاع البيئة فحسب، بل وتمس المصدر الاساسي لفئة من الناس ألا هو “البحر”، حيث يعلن الصيادون احتجاجاتهم على الردم الحثيث المتواصل لما تبقى من مساحات محدودة جداً من سواحلهم ومرافئهم التي اضحت نائية عن قراهم بفعل الدفان المستديم في ظل صمت مطبق من قبل تلك الجمعيات البيئية، والاغرب من هذا ان يحدث كل ذلك بالتزامن مع اليوم العالمي للبيئة والذي لا يكاد احد يسمع بفعالية تذكر في الاحتفال بهذه المناسبة.
 
صحيفة اخبار الخليج
9 يونيو 2008