درس الفلسفة، ليس محبة في أرسطو أو سقراط أو أفلاطون، وإنما لأن الفلسفة، كما يقول، لا تترك خلية واحدة في الدماغ عاطلة عن العمل. كان بوسعه أن يكون رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، لولا أن الأقدار أصابته بنقطة ضعف قاتلة، حين جعلت مولده في ألمانيا، لا في أمريكا ذاتها ما حال بينه وبين أن يكون يوماً سيداً للبيت الأبيض. مع ذلك لم يكن بوسع الرؤساء الأمريكان الذين تعاقبوا على هذا البيت خلال السنوات الماضية أن يتجاهلوا ما يقول، وكثيراً ما لجأوا إلى استشاراته وخبرته المديدة في العلاقات الدولية، وهم يضعون استراتيجياتهم. كلمته ظلت مسموعة، رغم مضي سنوات طويلة منذ أن كان وزيراً لخارجية الولايات المتحدة، ويجري التوقف أمام المقالات التي يكتبها والآراء التي يطلقها، كونها تقدم قراءة راصدة لما يجري في العالم من تحولات. لم يخف يوماً نزوعه اليميني، لا بل والرجعي، في دفاعه عن السياسة الامبريالية للولايات المتحدة، لا بل ومشاركته في هندسة هذه السياسة.
مؤخراً تحدث كيسنجر عن ثورات ثلاث تجري في مواقع مختلفة في عالم اليوم في الوقت ذاته. واحدة في أوروبا حيث تتخلى الدولة الأم عن بعض وظائفها وصلاحياتها السيادية لصالح إطار عابر للدول، وثانية في العالم العربي والإسلامي حيث تتخلى الدولة الوطنية، مرغمة غير طائعة، عن مجالات نفوذها الحيوي التقليدية لصالح الأصوليات الناهضة التي لا تعترف بشرعية الدولة ولا القانون الدولي، وثالثة تتمثل في انتقال مركز ثقل القرار الدولي من المحيط الأطلسي إلى المحيطين الهادي والهندي، مع بروز كل من الصين والهند واليابان كأقطاب دولية كبرى، اقتصادياً وسكانياً وعسكرياً.
لا يمكن أن ننجو من المفارقة المرة التي يشي بها حديث كيسنجر، حين نعقد مقارنة بين تضاؤل دور الدولة في أوروبا وبين الظاهرة نفسها في عالمنا العربي الإسلامي. في أوروبا تتم هذه الظاهرة لصالح تعزيز مكانة ودور الاتحاد الأوروبي، كأن مفهوم السيادة الوطنية بات ضيقاً ها هنا على كيان أكبر يوحد المصالح ويصهر المكونات المتعددة في بنية أشمل وأوسع وأكثر مهابة. أما عندنا فإن فشل الدولة الوطنية في إنجاز ما كان مناطاً بها من مهام في تحديث مجتمعاتها وتحقيق التنمية المتوازنة، قد دفع بها نحو الإخفاق. للحديث تتمة.
صحيفة الايام
9 يونيو 2008