طغت ظاهرة “الاسلاميزم” (الإسلاميون) أو”الإسلام السياسي” في العقود الأخيرة على الساحة الفكرية والسياسية وسيطرت على قلوب وعقول الناس في المجتمعات الإسلامية، بل تحولت إلى ظاهرة أو حركة عالمية أينما وجد مسلمون، جاء ذلك على حساب التيارين القومي واليساري واللذين انكمشا إلى حد ملحوظ في الوقت الحاضر، بعد أن تعثرت تجاربهما في تأسيس دولة مدنية مؤسساتية وقانونية قابلة للتطور والنمو.
بل إن مهمات حركة التحرر العربية التي كانت على أجندة الأنظمة “الثورية” تلك قد أصيبت بخلل مبكر من جراء عدم سلوك سكة المؤسسات الديمقراطية لنمط الحكم، على اثر نيل اغلب الدول العربية استقلالها السياسي، حيث لم تستطع الأنظمة ما بعد الاستقلال بلوغ انجازات اقتصادية/ اجتماعية/ ثقافية حقيقية مما حدا بالجماهير في تعرضها لخيبة أمل حادة، خصوصاً منذ نكسة حزيران وبالتدريج، حيث انفضت الناس عن القوى التقدمية والوطنية متجهين وببركات “البتر ودولارات الإسلامية” إلى كنف “الإسلام السياسي” بُغية حل مشكلاتها الاجتماعية والمعيشية السيئة انطلاقا من الوعود “العسلية”..
وفي هذا السياق لعله من الأهمية بمكان أن نوضح مسألة مهمة جداً للقارئ الكريم حتى لا يصيبنا سوء الفهم والالتباس.. فلا بد أن نبين هنا قصدنا الواضح في الفرق بين عموم المسلمين و”الإسلاميين”، بين الإسلام نفسه كدين محبة وسلام ومعايشة مع سائر الأديان والملل و”الإسلام السياسي” كأيدلوجية وحركة سياسية عنيفة، تهدف إلى القفز إلى الحكم بأحد الأسلوبين، إما باحتقان الوضع السياسي للوصول إلى العصيان المدني الشامل أو عن طريق صناديق الاقتراع والسيطرة التدريجية على مفاصل الأنظمة الحالية والشروع في تأسيس الثيوقراطية أو الدولة الدينية المعاصرة والعودة إلى الخلافة الإسلامية وتنفيذ “الشريعة الإسلامية” على الكل بالقوة والعنف، وهي في طريقها لهزيمة الغرب الرأسمالي شر هزيمة للوصول إلى اليوتوبيا الخيالية المتمثلة في تشييد “الخلافة الإسلامية” العالمية!
على أن جذور المسألة ترجع إلى مرحلة خضم الصراع الشديد في فترة الحرب الباردة ولجوء الغرب للاتكاء على التركيبة والمنظومة ما قبل الرأسمالية، أي الإقطاعية الحاضنة للقبلية والعشائرية والطائفية والتخلف من جهة، والاستفادة من الثقافة “الدينية” التقليدية السائدة من جهة أخرى، لمحاربة عدوها اللدود “الاشتراكية”. ظهرت تجليات هذا الحلف الثلاثي المقدس بين الغرب والأنظمة التقليدية ومبشري “الإسلام السياسي” الذين تحولوا إلى جهاديين في سبيل “تحرير” أفغانستان من “الملحدين”!، حيث كان المصنع الذي أنتج فيه آلاف مؤلفة من الشباب المغرر بهم والمشحونين بلواء “الشهادة” والخلود، الأمر الذي تسبب في تفريخ ما نراه الآن من ظاهرة “الإرهاب الأصولي”!.
ظل الوضع على حاله حتى زلزال بداية التسعينات من القرن الماضي عندما اختفت بسرعة البرق منظومة كاملة عن الوجود، معطيا التاريخ المعاصر ميلاً فجائياً غير متوقع، غير مسبوق، من مرحلة الثنائية القطبية إلى الأحادية القطبية وتبعات ذلك الانقلاب وتداعياته، الذي كان من باكورته، الانتفاء العملي لدور قوى التركيبات القديمة – ما قبل الرأسمالية – وعدم ضرورتها الموضوعية للغرب الرأسمالي، حيث انفجر الصراع بين المنظومة الرأسمالية وحليفتها السابقة “الفكر الإقطاعي” المغلف بالغلاف “الإسلامي”، ما لبث إلا وتحول إلى صراع دامٍ حتى الموت بين المنظومتين، تجسد عمليا في غزوة نيويورك الإرهابية (11 سبتمبر/ أيلول 2001)، التاريخ الذي بدا فيه الطلاق النهائي بين الغريمين وانقطع الحبل السّري وانكسرت قاعدة المثلث السابق (الامبريالية/ الرجعية/ التيار “الإسلامي” المتطرف)، حين استفحل الصراع المستمر تجلياته حتى هذه الساعة.
وكما رأينا في حينه، دخلت منظومتان اجتماعيتان اقتصاديتان ثقافيتان ندّان والمقصود هنا المنظومة الرأسمالية/ الليبرالية والمنظومة الإقطاعية/الإسلامية، في صراع مرير يبدو انه لا مخرج من هذه الحرب إلا بانتصار احدهما على الآخر، إلى درجة أن المنظرين الغربيين الموضوعيين باتوا لا يتفقون جميعهم على طبيعة هذا الصراع ونتائجه، لكنهم متفقين – حسب تحليلاتهم – على أن: ظاهرة تيار “الإسلام السياسي” كقوة اجتماعية سياسية واسعة ستظل لفترة طويلة، سواء قفزوا إلى الحكم أم لم يفلحوا، بسبب أن الناس والأجيال المتعاقبة متشربة من هذه الثقافة وهذا النمط من التفكير. ولابد للمجتمعات الغربية أن تتعامل مع هذه الظاهرة بسلاسة ودهاء بُغية عصرنتها وتغييرها، وذلك لأن السّبل العنيفة والحروب لا تؤدي إلى نتائج ايجابية بل العكس من ذلك، حيث ستزيد من تأثير المتطرفين على بسطاء القوم من المسلمين.
أيضاً يجب على الغرب الإسراع في ترتيبات جديدة قائمة على المؤسسات الدستورية، وإيجاد حلول للمشكلات المستعصية والمزمنة بدل الوقوف مع الأنظمة الاستبدادية الحالية، التي تعتبر المصدر الأساس للفقر والتخلف ومراوحة الأوضاع المتردية في الدوران في مكانها. بعيداً عن الدخول في تفاصيل العوامل التي ساعدت “الإسلام السياسي” على النمو الهائل والانتشار السرطاني، في هذه العجالة، ممن المكن الإشارة إلى أهمها: التغير الكبير الذي حدث في تركيبة المنظومة العالمية والانتقال الفجائي من الثنائية إلى الأحادية للمنظومة العالمية.
(أولاً): تعثر وفشل الأنظمة الوطنية والثورية العربية، في حينه، من انجاز مهمات المرحلة الوطنية الديمقراطية وتأسيس المجتمع المدني.
(ثانياً): تحول تلك الأنظمة الوطنية التي جاءت جُلّها عن طريق الانقلابات العسكرية المستمدة من استعجال رافدها الاجتماعي المتمثل في فئات البرجوازية الصغيرة إلى نمط فريد من الحكم الاستبدادي والاستقطاب الشديد بين مكوناتها القومية بين بعضها البعض (البعث والناصريين) وبينها وبين الماركسيين مما سبب خسارة جمة للتطور المرجو، المنطلق من الفواصل المشتركة، مثال سقوط عبدالكريم قاسم في العراق على يد القوميين وبمساعدة عبدالناصر وغيرها من الأمثلة الكثيرة.
(ثالثاً): عسف الأنظمة العربية الرسمية والتقليدية للقوى التقدمية والعصرية وركونها لـ”لإسلام السياسي”في محاربتها لتلك القوى، بآلية علاقة وظيفية ومصلحية بينهما تعيد على الدوام إنتاج استمرارية الحكم الاستبدادي غير الدستوري وغير القانوني من جهة والعمل على نشر ثقافة متزمتة سلفية ذكورية متخلفة من جهة أخرى، بشكل بدا وكأنهما وجهان لعملة واحدة.
(رابعاً): استمرار المشكلات القومية المزمنة (القضية الفلسطينية) والوطنية المستعصية واستفحالها وانسداد أفق حل المشكلات الاجتماعية والحياتية في كل بلد.
(خامساً): فشل الغرب حتى الآن لإيجاد معادلة قابلة للتطبيق أو برنامج حقيقي للتطور الديمقراطي والمؤسساتي الشامل لتحديث الأنظمة العربية الحالية.
(سادساً): الهوان الشديد للقوى التقدمية والتنويرية وفشلها من فهم سمة العصر واستنتاج التناقض الأساس في المنطقة العربية، في اللحظة التاريخية الحالية، مما أثر على الاصطفاف والاستقطاب السياسي الغريب وغير المبدئي.
(سابعاً): المال “الإسلامي” القادم من مختلف السّبل القانونية وغير القانونية أو من قنوات ما يسمى بالاقتصاد الإسلامي غير الربويّ (البنوك الإسلامية) ومن المصادر الكثيرة العائدة لقوى “الإسلام السياسي” مثل الجمعيات الخيرية وعشرات غيرها من القنوات.
صحيفة الوقت
8 يونيو 2008