مازال العرب يتفاخرون إلى يومنا هذا بكرمهم وسخائهم وتميزهم بهذه القيمة الإنسانية ما بين شعوب وأمم العالم، كما يتباهون بأن هذه القيمة تضرب بجذورها في تاريخهم وتراثهم منذ نشأتهم التاريخية في الجزيرة العربية.. لكن الى أي مدى يصح القول بوجود هذه الظاهرة – القيمة في عصرنا الراهن؟ وبتعبير آخر الى أي مدى تنطبق هذه الصفة عليهم بمختلف شرائحهم الاجتماعية وبمختلف بلدانهم ومناطقهم؟ غني عن القول إن خاصية الكرم كواحدة من قيم المنظومة الأخلاقية الاجتماعية هي من أبرز القيم التي تعرضت للاهتزاز أو الضمور في عصرنا لدى مختلف الشرائح الاجتماعية بوجه عام ولدى الشرائح العليا والميسورة بوجه خاص.
وإذا كان يمكن فهم الأسباب المختلفة لتقتير وتدني كرم الطبقات الفقيرة والمعدمة، فإن ما لا يمكن فهمه هو أن يزداد هذا البخل لدى الطبقات الثرية والميسورة، لا بل من المدهش والمفارقة معاً ان تقتير هذه الطبقات أخذ يزداد على نحو ملحوظ كلما جنت أرباحا طائلة، وهذا على النقيض مما كانت تتميز به من كرم نسبي في السنوات الخوالي لأيام البساطة في بدايات انطلاق مشاريعها الاستثمارية وصعودها الطبقي. وللتأكيد على ذلك يمكن لأي باحث أن يقارن هذه النزعة بين مرحلتين تاريخيتين: مرحلة ما قبل صعود الطفرة النفطية في السبعينيات، ومرحلة ما بعد صعود الطفرة النفطية والتي بلغت أوجها خلال السنوات القليلة الماضية.
ولعل ما هو أغرب من ذلك ان يستمر هذا التقتير تجاه المجتمع والوطن من دون أي إحساس بالمسئولية الوطنية حتى في أحلك الظروف ضنكاً التي تمر بها شرائح واسعة من شعبنا، كالظروف الحالية تحديداً حيث تتوالى موجات ارتفاع الأسعار الجنونية في المواد الغذائية وغيرها، وحيث الكثير من التجار ورجال الأعمال لا يكتفون ببخلهم فحسب بل يستغلون الغلاء العالمي للمبالغة في رفع الأسعار بغرض تحقيق فائض مضاعف من تراكم الأرباح الخرافية. لا بل ان واحدة من هذه المفارقات ان مليارديرية ومليونيرية الغرب الذين لطالما تفاخر العرب عليهم بكرمهم هم أكثر سخاء تجاه شعوبهم في فضيلة الكرم والجود بالتبرعات لصالح الفقراء والأعمال الخيرية لمجتمعاتهم وأوطانهم. وأنت خذ على سبيل المثال أشهر منطقة غربية عرفت ببخل أهاليها ألا هي اسكوتلندا فقد حملت لنا أخبار العام الماضي نبأ تبرع السير توم هنتر بما لا يقل عن ملياري دولار للقضاء على الفقر في افريقيا وخلق كفاءات لقيادات إدارة الأعمال وتطوير الكفاءات العلمية الشبابية.
أما في تركيا فقد ظهر جيل جديد من المليونيرات المهتمين بتخفيف العبء على فقراء بلادهم مثل حسنو أوزجين الذي انفق 50 مليون دولار لبناء 36 مدرسة وإسكان طالبات في أفقر أحياء تركيا. وفي المكسيك تبرع الملياردير كارلوس حلو الى الصندوقين الخيريين المختصين بالصحة والتعليم. وفي روسيا تبرع أغنى رجل فيها ألا هو رومان ابراموفيتش لبناء مجموعة من المدارس والمستشفيات في منطقة تشوكوتكا بالقطب الشمالي. وخذ على سبيل المثال أيضا الهند، وهي من أكثر بلدان العالم الثالث التي توجد فيها نسبة كبيرة من الفقراء، فقد أسس أزيم برمجي مؤسسة خاصة لدعم التعليم الابتدائي، أما في الولايات المتحدة قلعة الرأسمالية، والتي لطالما تناولنا في مناسبات عديدة ما يجود به مليارديريتها من تبرعات فإن حتى المذيعة التلفزيونية الشهيرة أوبرا وينفري عرفت بتبرعاتها السخية الخيرية داخل بلادها وفي افريقيا.
واذا كان البعض لا يتوانى عن البحث عن الشهرة من خلال تبرعاته فإن في الولايات المتحدة نفسها ثمة أثرياء لا يبتغون من التبرع سوى وجه الله ويكرهون المن بتبرعاتهم الخيرية، وهذا ما فعله مليونير مجهول حينما تبرع بـ 50 مليون دولار لجامعة سانت توماس لمساعدتها على تطوير برامجها التعليمية وأبحاثها الأكاديمية. وفي دراسة ميدانية لكلية إدارة الأعمال بجامعة هارفارد تبين ان أكثر من 630 ثرياً وميسوراً شعروا بالسعادة حينما تبرعوا الى أعمال الخير. ولربما أنت لو تقصيت عن حقيقة شعور بضعة من رجال أعمالنا بعد أن وجدوا أنفسهم مضطرين للتبرع بحفنة من أموالهم لكان جوابهم الصادق هو احساسهم بالتعاسة والأرق والقلق من جراء خسارة تلك الحفنة، ناهيك عن الدعاية الإعلامية الكبيرة التي يحيطونها مقابل تبرعات تافهة.
أما إذا أتينا على مستوى مجلس التعاون الخليجي فالراجح أيضا أننا البحرينيين في ذيل قائمة دول المجلس من حيث تبرعات الأثرياء والمليونيرية للعمل الخيري سواء من حيث نسبة عدد المتبرعين من إجمالي عدد الأثرياء والمليونيرية أم من حيث نسبة الأموال المتبرع بها قياسا الى أحجام ثرواتهم مقارنة بمليونيرية ومليارديرية دول الخليج. وعلى الرغم من ان النساء يعرف عنهن أنهن أكثر رقة وإرهافا وتعاطفا مع مشاكل مجتمعاتهن، وعلى الأخص مشاكل المرأة، وعلى الرغم أيضا من ان ثريات الخليج يملكن 246 مليار دولار (القبس 22/1/2008م) فإن لا أحد يسمع بتبرعاتهن تجاه الأعمال الخيرية عامة والمؤسسات النسوية بخاصة اللهم ما ندر.
وأخيراً، ها هي الإمارات التي لطالما شهدت مزادات في الأسعار على أرقام السيارات المميزة بغرض توظيفها لأعمال خيرية فعلى الرغم من سخافة فكرة كهذه للبحث المتعمد للتمايز عن سائر الخلق فإنها تظل وسيلة لا مناص من توظيفها لاستقطاب جود أصحاب الملايين والمليارات للأعمال الخيرية. فأين أثرياء البحرين من كل هذه الفعاليات الخيرية؟ وإلى متى سيستمر بخلهم اللاوطني المفضوح؟!
صحيفة اخبار الخليج
8 يونيو 2008