ليس جديداً التكتيك الذي لجأت إليه القوات الأمريكية في تسليح العشائر السنية وتقويتها لتصبح قوة ضاربة تستعين بها في مواجهة أفراد “القاعد” المسلحين، وسواهم من تشكيلات ترفع السلاح في وجه الجيش الأمريكي، عبر ما باتت تعرف بقوات “الصحوة”.. قراءة فاحصة في التاريخ السياسي للعراق المعاصر ستكشف ذلك. ففي مطالع القرن الفائت، وفي مواجهة ثورة العشرين التي قادها رجال الدين الشيعة ضد الإنجليز، عمدت السلطات البريطانية إلى تقوية العشائر في مواجهة المؤسسة الدينية في النجف، لتقيم قوة موازية تضعف من نفوذ رجال الدين، وتعمق انقسام المجتمع، بحيث لا يغدو كتلة واحدة في مواجهة الانجليز.
ينطوي هذا التكتيك على مهارة، تنم عن قراءة جيدة للبنية العشائرية القائمة أساساً على التفكك لا على الوحدة؛ فالعشيرة إذ توحد أفرادها حول نواة قوية راسخة باعثة على الولاء المطلق، لا بل والأعمى لها، فإنها تكرس انقسام هذه العشيرة عن بقية العشائر. بمقدار ما تقوى العشيرة تزداد عزلة عن سواها من عشائر، وتسمح هذه العزلة باستخدام كل عشيرة في وظيفة التضاد مع عشائر أو قوى أخرى. وعلى خلاف المرجعيات الدينية التي، بحكم وظيفتها، قادرة على “توحيد” قطاعات واسعة حولها، لأن باعث الولاء هنا مختلف وأكثر تعقيداً، فإن بنية العشيرة قائمة على التجزيء.
الأولى قائمة على التماثل أما الثانية فقائمة على التمايز. في كلمات أخرى، فإن المذهب السني يجمع السنة، وربما يوحدهم، ومثله يفعل المذهب الجعفري مع الشيعة، أما العشيرة فإنها تخترق الانتماء المذهبي لتقيم ولاء أضيق منه، وربما يكون أكثر فاعلية. استعار الأمريكان من حلفائهم الإنجليز هذا التكتيك، وأعادوا توظيفه للتصدي للمواجهة المسلحة ضدهم في المناطق ذات الكثافة السنية، وهو تكتيك أثبت نجاعته، ولو إلى حين، حين شهدنا عمليات تقوم بها “جماعات الصحوة” ضد المقاتلين الذين يشهرون السلاح ضد القوات الأمريكية، بالنيابة عن هذه الأخيرة أو بالتعاون معها. وهي نجاعة تغري بالمضي قدماً فيه، لاستخدام العشائر الشيعية ضد نفوذ رجال الدين الشيعة إذا اقتضى الأمر في مرحلة لاحقة، قد لا تكون بعيدة. لكن هذا التكتيك يعيد إنتاج آلية الولاءات التقليدية ويُقويها، وهي ولاءات سابقة للدولة المدنية وكابحة لتطورها، بل معيقة لبنائها من الأساس.
صحيفة الايام
8 يونيو 2008