يبدأ صادق جلال العظم – الكاتب والناقد السوري – كتابه ‘النقد الذاتي بعد الهزيمة’ بحادث تاريخي هو هزيمة روسيا أمام اليابان، رغم التفاوت التقليدي بين البلدين سواء في المساحة أو المعدات الحربية والسكان والطاقات الكامنة التي كانت تتفوق بها روسيا على اليابان. أحرزت اليابان نصراً ساحقاً في يناير ,1904 عن طريق المباغتة؛ وشنت هجوماً على الأسطول البحري في المحيط الهادي وحطمته وشلت فعاليته، ويرجع العظم هذا النصر إلى تخلف روسيا القيصرية وتقدم اليابان، وشبَّه هذه الهزيمة بهزيمة العرب أمام إسرائيل في 5 يونيو (حزيران) العام ,1967والسبب كان ثقة الروس الكبيرة إلى درجة أنهم كانوا يهزؤون بدولة اليابان. ومن أقوالهم: ‘إذا تجرأت اليابان على ضرب روسيا سنرمي بها في البحر، وسندفن اليابانيين تحت قبعاتنا’. ويضيف: ‘هذه كلمات فيها نوع من الاستهتار بالعدو وقوته، والثقة الجوفاء تشبه ما كتبه محمد هيكل في اليوم الثاني من حرب حزيران، إذ قال إن إسرائيل مقبلة على عملية انكسار تكاد تكون محققة من الداخل ومن الخارج’.
ومثل هذا القول كرره مراسلو ‘الجمهورية’ و’الأهرام’، ووصفوا عدوهم بأنه حفنة من شراذم. ويردف العظم: ‘تمكنت روسيا من تحويل الهزيمة إلى نصر عبر قيامها بالنقد والنقد الذاتي على لسان مثقفيها وكتَّابها ومفكريها وفنانيها وأحزابها وقياداتها، وتمثل ذلك بثورتين: 1917 ,1905 والأخيرة هي ثورة أكتوبر التي قلبت التفكير والأنماط الاتباعية المتوارثة في الإنتاج والتنظيم والحكم، ووضعت على المحك كل شيء متهرئ بالنسبة للحضارة الحديثة والمعاصرة، وتحولت هزيمة روسيا من محنة إلى تجربة ومن كارثة إلى درس، لقد تقبلت مسؤولية الهزيمة ووضعتها على نفسها ولم تحاول لوم أحد إلا ذاتها وواقعها وتنظيمها وحقيقتها القائمة وخصوصاً عند قياسها بواقع العدو وحقيقته’.
وبعد أن شابه العظم هزيمة روسيا بهزيمة العرب حدد نقاط الاختلاف في تقبل الهزيمة عند الروس وعدم تقبلها عند العرب، وأنها لا تتلخص في كونها مجرد فشل عسكري عابر جاء نتيجة تحالفات سياسية وتقلبات دبلوماسية لم تكن في صالحهم، بل جاءت في معظمها في صالح إسرائيل. وهذه الأسباب مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالأوضاع الاقتصادية والثقافية والعلمية والحضارية السائدة في الوطن العربي التي جاءت الهزيمة انعكاساً لها وتعبيراً عن حقيقتها القائمة. يقول العظم: ‘إن الفارق الرئيسي بين هزيمة روسيا وهزيمة حزيران هو التملص من مسؤولية الهزيمة التي لحقت بنا وإسقاطها على أمور خارجية لا دخل لنا فيها، ما يسمح لنا بتسويغ ما وقعنا فيه من مواقف محرجة وتقصير في واجباتنا، تجاه القضية العربية الأولى وتجاه تحديات الحضارة الحديثة، إننا نحاول أن نراعي المشاعر ونهتم باللياقة والمعنويات والمجاملات والخواطر’.
يلوم صادق جلال العظم العرب في إزاحتهم مسؤولية الهزيمة عن أنفسهم ووضعها على الطائرات البريطانية والأمريكية التي شكلت مظلة واقية فوق إسرائيل وشاركت مشاركة فعالة في ضرب المواقع القتالية. والنقطة الثانية وضع مسؤولية الهزيمة على الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية التي كانت في جانب مصر ضد إسرائيل. ويرد على ذلك بأن مصر استعادت كل السلاح الذي دمر في حرب حزيران خلال شهرين بسبب مساندة الدول الآنفة الذكر لها. ويتعجب العظم من تفسير الهزيمة عبر تحميل الاستعمار مسؤوليتها، ثم سحب ذلك على الآلهة والغيبيات، إذ ذكر صلاح الدين المنجد في كتابه ‘أعمدة النكبة’: ‘لقد تخلى العرب عن إيمانهم بالله فتخلى الله عنهم’. وكأن العلاقة بالله عز وجل علاقة مصالح متبادلة ومنافع مشتركة. واستشهد العظم بتصريح مفتي الأردن لصحيفة الدستور في 23 أكتوبر 1967 الذي قال فيه: ‘ليس في اليهود من القوة ولا من البأس ما يستطيعون أن يفعلوا، ولكن الله أراد أن يسلط علينا هذه الفئة نتيجة بعدنا عن ديننا’. ويضيف العظم: ‘لقد بلغ الأمر حده لدرجة الترحم على الدولة العثمانية وخلافتها’.… يتبع
صحيفة الوطن
7 يونيو 2008