هل من مساحة مشتركة بين القصة القصيرة والمقالة الصحفية في نماذجها الراقية؟! يشغلني هذا الهاجس حين أقرأ لرواد المقالة الصحافية العرب، الذين غالباً ما ارتبطوا ارتباطاً وثيقاً بفكرة التنوير والنهضة، من طراز كتب سلامة موسى العديدة التي هي في غالبها مقالات صحفية: رشيقة، أخّاذة، مبهرة لسعة اطلاع كاتبها وموسوعية معارفه، وقدرته المميزة على السرد. نعم ..! السرد، كما يفعل كاتب القصة القصيرة والروائي. هذا الإحساس انتابني أيضاً وأنا أطالع كتاب الأستاذ كامل زهيري، والموسوم “مائة امرأة وامرأة”.
إن الكاتب هنا يكتب مقالة صحفية، ولكنها مقالة مشغولة بعناية: تأنٍ في اختيار المفردة، رشاقة في بناء العبارة، ثم ذلك السرد الجميل لحكايات عاشها الكاتب وتأملها وأمكنة ومدن زارها وجال فيها، ووجوه قابلها وأصدقاء صاحبهم. الأمر أقرب إلى ما يشبه السيرة الذاتية، ولكنها ليست سوى سيرة ذاتية بالمعني المألوف والمتداول. ”إذا أردت أن تبحث عن المرأة في المدينة وأي مدينة فعليك أن تترك الشوارع الرئيسية لتبحث في الشوارع الخلفية حيث عالم المرأة الخفي”.
ونساء كامل زهيري لسن سوى مدن أحبها وعشقها وأقام معها وشائج حب وصلات مودة، ولكن المرأة حاضرة دائماً، ليس فقط بوصفها مدينة، وإنما بصفتها كائناً جميلاً، متألقاً، وأثيراً، وقريباً إلى النفس. ولا يمكن أن يدور الحديث عن المرأة عند كاتب جميل دون أن يدور عن الحب، الذي هو برأي كامل زهيري: “ألوان .. في الروايات والقصص الخالدة، ولكنه يختلف بين مجنون ليلى وروميو ودون جوان، لأن المجنون كان مثال الحب العذري العفيف الذي يؤدي حتماً إلى هلاك المجنون، ورميو كان مثال الحب المستحيل والنبيل الذي ينتهي إلى المأساة بالموت والفراق، بنما زدون جوانس كان مثال العاشق الفاسق الطائش الذي لا يشبع من المغامرات”.
على أن عنوان الكتاب ينطوي على مكيدة أو مكر أو شيء أشبه بالمخاتلة. إن المرأة حاضرة في كل الكتاب، والحب كذلك. لكن الكتاب يحتوي على فضاءات لا متناهية تشمل العمارة والأدب والموسيقى والسينما والفنون التشكيلية والتاريخ والنقد، وذلك الإحساس العميق بالأمكنة. إن رهافة أي مبدع تتجلى في إحساسه بالمكان، وهذا ما يفعله كامل زهيري في علاقته بالأمكنة التي يحبها: الهند، باريس، سان فرانسيسكو. لكن ما من مدينة حاضرة في الكتاب كما تحضر القاهرة، التي عنها يقول: “أحببت القاهرة، بل وقعت أسيرها، ولم يعد جديدها يخفي عن قلبي قديمها. واحترفت التجوال عن قصد وغير قصد في الأحياء القديمة وفي الشوارع والحواري والأزقة.. أدق بلا توقف وفي لطف أحياناً على استحياء أبواب المباني القديمة، وبعض الزمان الذي يمضي يتعلق بأطراف المباني كما يلتصق فيها كالتراب.. وفي ساعات الصفا طالما سمعت نفسي تحدث نفسي: لو لم أكن قاهرياً لوددت أن أكون قاهرياً. ”مائة امرأة وامرأة”من طراز تلك الكتب التي تمنحنا جرعات غنية من الثقافة والفكر والفن والوعي بالتاريخ بسلاسة وجمال، إن صاحبه يُثقفنا دون أن يدعي ذلك أو يتباهى به. إنه يفعل ذلك بمنتهى الذكاء والتو.
صحيفة الايام
7 يونيو 2008