المنشور

النكسة ودروسها المغيّبة

على الرغم من مرور أكثر من 40 عاما على كارثة حرب يونيو 1967م التي منيت فيها جيوش ثلاث دول عربية، مصر وسوريا والاردن، بالهزيمة الماحقة النكراء امام جيش العدو الاسرائيلي منذ اليوم الاول لعدوانه على هذه الدول، والتي اسفرت عن احتلاله لأراض تابعة لكل منها، فانه حتى الآن لم يكشف النقاب بعد بما فيه الكفاية عن وثائق واسرار هذه الحرب ولاسيما تلك المتعلقة بأداء الجيش المصري باعتباره اقوى هذه الجيوش ومركز الثقل العسكري المعول عليه في تلك الحرب الكارثة. فبإخراجه عمليا من الحرب منذ اليوم الاول جراء الضربة الموجعة القاصمة لسلاحه الجوي تم الاستفراد بالجيشين الاردني والسوري وإلحاق الهزيمة بهما بسهولة. في الدول الديمقراطية الغربية، كالولايات المتحدة وبريطانيا، يتم عادة الافراج عن الوثائق السرية العسكرية، وحتى السياسية، بعد مرور فترة زمنية كافية من الوقت تتراوح بين 25 عاما إلى 30 عاما لكي تنتفي الخطورة الأمنية، ان توجد من كشف للمعلومات العسكرية والسياسية الواردة فيها.
وثمة قوانين تنظم ضمان حقوق الحصول على المعلومات والوثائق من دون حجبها بذرائع واهية غير منطقية وغير مقنعة. اما في دولنا العربية، وعلى الأخص تلك المعنية بهزيمة يونيو 1967م، فمازالت رغم مرور اربعة عقود على وقوعها تخشى الكشف عن ولو النزر اليسير من المعلومات والوثائق المتعلقة بهذه الكارثة حتى لو كانت أمة بأكملها مازالت حتى يومنا هذا تدفع فواتير نتائجها الكارثية على مختلف الاصعدة السياسية والعسكرية والثقافية والاجتماعية وبكل ابعادها الحضارية حيث ما برحت هذه الامة منذاك تشهد ارتدادا حضاريا متصاعدا غير مسبوق في تاريخها الحديث هذا مع العلم لا توجد تشريعات وقوانين ديمقراطية تنظم حرية الحصول على المعلومات وحظر حجبها ليس في دول النكسة فحسب بل وفي معظم الدول العربية.
على ان فرض السرية والحظر على الوثائق والمعلومات المتعلقة بهزيمة يونيو 1967م لا يمنع بأي حال من الاحوال استخلاص العبر والدروس من هذه الكارثة ولو من خلال ما تم الكشف عنه من نزر يسير عنها خلال العشر سنوات الماضية، وعلى الأخص مما يمكن استخلاصه من كتابات وشهادات عدد من القيادات العسكرية والضباط المشاركين فيها، فضلا عن الرموز السياسية التي عاصرت تلك الفترة من مواقعها التنفيذية. وقد نشر العديد من هذه الشهادات في الصحافة العربية كما صدر عدد من كتب المذكرات للضباط مثل صلاح نصر وشمس بدران وهما من الضباط الذين كان اداؤهم سيئا في الحرب ومثل الفريق محمد فوزي ومجموعة من الضباط الآخرين مثل عبدالحميد الدغيدي، وعبدالمحسن مرتجى، وانور القاضي، وصلاح الحديدي.
(انظر كتاب الطريق إلى النكسة لمحمد الجوادي، دار الخيّال)، هذا علاوة على مذكرات الدكتور مراد غالب (سفير مصر في موسكو) وشهاداته البالغة الأهمية والتي أدلى بها في أكثر من عشر حلقات في برنامج “شاهد على العصر” بقناة الجزيرة والتي بثت مباشرة قبيل فترة قصيرة من وفاته في ديسمبر الماضي 2007م. ولعل واحدا من أهم واخطر الاسرار التي كشف عنها الدكتور غالب، وان كان هذا السر قد أميط اللثام عنه قبلا إلا انه ليس بشكل مفصّل كما رواه الدكتور غالب نفسه كشاهد عيان، هو ذلك المتعلق بحقائق نتائج زيارة وفد عسكري مصري على مستوى عال بعثه الرئيس عبدالناصر الى موسكو برئاسة وزير الحربية شمس بدران للاجتماع مع القيادات السياسية والعسكرية السوفييتية قبيل الحرب بأيام للتباحث حول موقف موسكو حينما تتخذ القاهرة قرارا نهائيا بشن حرب على اسرائيل.
وكان موقف السوفييت واضحا في هذا الاجتماع بالتحذير من مغبة ان تكون القاهرة المبادرة بشن حرب كهذه ولاسيما بالنظر لافتقاد جاهزيتها العسكرية لذلك من مختلف الجوانب التسلحية والاعدادية، فضلا عن تدخل امريكا المتوقع في الحرب. لكن الفريق بدران عاد إلى القاهرة ليصوّر نتائج الاجتماع لعبدالناصر كما تراءى له أو كما توهم على العكس من ذلك تماما حيث ابلغ الرئيس عبدالناصر بأن السوفييت أبلغوه بأنهم سيتدخلون عسكريا اذا ما تدخلت الولايات المتحدة الى جانب اسرائيل، وان الاسطول السادس الامريكي المرابط في البحر المتوسط لو تدخل في الحرب فان لدى السوفييت ما “يبططه” على حد تعبير بدران.
وكانت هذه المعلومات والتقييمات الخطيرة الخاطئة من الاسباب الرئيسية للهزيمة حيث بنت عليها القيادتان السياسية والعسكرية في مصر حساباتهما لخوض الحرب التي افضت الى الكارثة العسكرية المعروفة يوم 5 يونيو فنتائجها الكارثية السياسية المتواصلة إلى يومنا هذا. وللأسف فانه بالرغم من مرور أربعة عقود ونيف على هذه الكارثة فانه لم تجر دراسات وحوارات معمقة بعد لاستخلاص دروسها وعبرها مصريا وعربيا، إن على الصعيد السياسي، وان على الصعيد العسكري.
والحال ان سوء فهم الفريق شمس بدران وزير الحربية المصري الاسبق للموقف الحقيقي للاتحاد السوفييتي من الحرب التي توشك بلاده الدخول فيها مع اسرائيل عشية هزيمة 1967م اثناء اجتماعه مع القيادات العسكرية السوفييتية قبيل الحرب وهو سوء الفهم الذي كان من الاسباب التي أفضت الى كارثة 1967م ليذكرنا بالضبط بالاوهام التي ساورت واستبدت بالرئيس العراقي الراحل صدام حسين عشية هجومه على الكويت عام 1990م عندما اجتمع بسفيرة الولايات المتحدة في بغداد قبيل الغزو ابريل جلاسبي، وتوهم بأنها توحي له بعدم اكتراث الولايات المتحدة بفرضية أي هجوم محتمل يعتزم صدام شنه على الكويت، وهذا ما أفضى الى كارثة الغزو ثم كارثة تدمير العراق خلال عمليات الهجوم الامريكي الساحق عليه لتحرير الكويت، فالعقوبات الاقتصادية الظالمة على الشعب العراقي طوال 13 عاما، فضرب العراق مجددا وغزوه امريكيا ووقوعه تحت الاحتلال منذ عام 2003م.
 
صحيفة اخبار الخليج
6 يونيو 2008