المنشور

المعاهدة الأمريكية – العراقية ومقاومة الاحتلال

أحدث الاحتلال الأمريكي للعراق بعد نجاحه في إسقاط النظام السابق بالقوة العسكرية من الخارج، أحدث انقساما عميقا في صفوف القوى السياسية الأساسية، كما في صفوف القوى الدينية والاثنية التي يتكون منها النسيج الوطني للشعب العراقي المعروف بتعدديته الدينية والقومية. وكان محور الانقسام الأساسي يدور حول الموقف من الاحتلال، واستتباعا الموقف من مقاومته العسكرية، وشكل ووسائل هذه المقاومة وتوقيتها ومستقبل العراق وهويته السياسية وشكل نظام الحكم المزمع إقامته بعد انتصار هذه المقاومة. هذا فضلا عن القوى المشاركة في هذه المقاومة، ومدى واقعية أو جواز التحالف مع خليط غير متجانس متنوع الأهداف من المقاومة بل متنوع المشارب الفكرية، حيث ثمة قطاع غير قليل منها ينزع الى الأعمال المتطرفة والإرهابية التي تطاول المدنيين الأبرياء والمؤسسات والمراكز الدينية والأسواق ومؤسسات وأجهزة الخدمات العامة والبنية التحتية عدا عن أن بعضها لا ينتمي للشعب العراقي، فيما ثمة قوى تحدد نشاطها العسكري المقاوم ضد الأهداف العسكرية فقط لكن مهمشة على الساحة السياسية.
وفي المقابل ثمة قوى وأطراف سياسية أساسية، وفي مقدمتها ممثلو الإسلام السياسي الشيعي وممثلو الأكراد، انخرطوا في العملية السياسية تحت شعار إقامة نظام “ديمقراطي” جديد وان جرت العملية تحت رعاية ومباركة الاحتلال الأمريكي. وفي ظل هذا الاحتلال جرت غير مرة انتخابات للجمعية التأسيسية وانتخابات نيابية كما جرى على عجل سن دستور جديد للبلاد تضمن الكثير من نصوص المواد والبنود التي تشوه ليس هوية البلاد العربية فحسب، بل وتشويه حتى الطابع الديمقراطي للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي المنشود والمأمول من المشاركة في العملية السياسية ذاتها. وفي ظل انطلاق العملية السياسية التي استمرت من دون توقف منذ وطئت أقدام جنود الاحتلال وادي الرافدين فإن أعمال الفوضى والإرهاب والمذابح الدموية الجماعية ظلت مستمرة ومتفاقمة طوال السنوات الخمس الماضية.
وإذا كانت الاحتلالات والغزوات الأجنبية للبلدان العربية شكلت موضوعيا دائما عنصر توحيد لفئات الشعوب وقواها السياسية والدينية المختلفة لمجابهة الاحتلال الأجنبي ومقاومته، فإن ما حدث في العراق بعد الغزو الأمريكي في عام 2003 كان العكس تماما، أي ان الموقف من الاحتلال ومن العملية السياسية التي تجرى تحت رعايته ومباركته شكل سببا للانقسام بين هذه القوى، وهذه مفارقة تاريخية غير معهودة في تاريخ البلدان العربية الحديث، وما ذلك إلا لجملة من مفاعيل العوامل الموضوعية والذاتية العميقة المتشابكة الأبعاد التاريخية والسياسية والدينية، بدءا من نشأة الدولة الملكية العراقية الحديثة في ظل الاحتلال البريطاني في عشرينيات القرن الماضي، ومروراً بنشأة الحكم الجمهوري الذي جاءت به ثورة 1958 بقيادة عبدالكريم قاسم، وانتهاء بحكم البعث الذي جاء الى السلطة بانقلاب عسكري عام 1968 وظل فيها على مدى 35 عاماً، وهي أطول فترة حكم لواحد من الأنظمة التي تعاقبت على حكم العراق.
لقد كان المبرر الذي عبرت عنه القوى السياسية التي شاركت في العملية السياسية ومعظمها من القوى المعارضة للنظام السابق، انه لم يكن هناك بديل ممكن لإسقاط النظام إلا بهذه الطريقة المعروفة التي جرت بها، وان العملية السياسية وان جرت تحت الاحتلال إلا انها تفتح الطريق لخلاص العراق من إرث الدكتاتورية السابق المديد وتفتح آفاقا لبناء عراق ديمقراطي جديد طال انتظاره، وان هذه العملية اذا ما جرت على أيدي ممثلي الشعب العراقي الحقيقيين المنتخبين يمكن التحكم بعدئذ في مخارجها بإنهاء الاحتلال وإجلائه سلميا بالتوافق معه، ومن ثم يمكن الدخول معه في مهادنة مؤقتة ضرورية ضمن لعبة التكتيكات من دون افتقاد بوصلة الهدف الاستراتيجي المركزي في انتزاع حق تقرير مصير الشعب العراقي على أرضه وتحريره من ربقة الاحتلال وتحقيق سيادته الوطنية الكاملة.
والسؤال الذي يفرض نفسه الى أين قادت هذه العملية السياسية السلمية التي جرت في ظل كل تلك الأوضاع والظروف الخطيرة والمعقدة التي مر بها العراق تحت الاحتلال، وهي أخطر ظروف على الاطلاق يمر بها تاريخ العراق؟ غني عن القول ان هذه العملية لا تسير بسلاسة كافية ليس لأنها تجرى في ظل الاحتلال فحسب، بل ولأن القوى السياسية الأساسية المنخرطة فيها ليست مؤهلة بتاتا لقيادة مشروع وطني جامع لكل العراقيين على اختلاف قواهم وفئاتهم السياسية والدينية والقومية، هذا بافتراض ان الشروط التي تجرى بموجبها العملية السياسية مؤاتية لأن تسير بعيدا عن تدخلات وتأثير سلطات الاحتلال. وما يمكن قوله عن القوى الأساسية المنخرطة في العملية السياسية يمكن قوله الى حد كبير عن القوى المنخرطة في مقاومة الاحتلال من حيث غياب العنصر الموحد لكل أطياف العراقيين.
الآن وقد ظهرت لحظة الحقيقة التي لا مجال للمناورة حولها وذلك بانكشاف مخطط للاحتلال للبحث عن مكافأة يحفظ بها ماء وجهه للخروج من المستنقع الذي أوقع نفسه فيه والمتمثلة في رغبته فرض معاهدة استرقاقية استعمارية بعد خروجه من العراق على التحالف الحاكم الحالي، وهناك اجماع شعبي بمختلف أطيافه السياسية والدينية على رفض هذه المعاهدة السيئة الصيت والتي تمس سيادة العراق حتى بعد رحيل المحتل وتعطيه ضمن ما تعطيه حق وجود قواعد عسكرية، وحق ان ينطلق منها لشن عمليات على دول مجاورة، واطلاق يد المحتل في اعتقال مواطنين مشبوهين متى شاء، وتحريك القطاعات العسكرية، واستقدام قوات تعزيز جديدة، ومنح جنود الاحتلال الجديد القديم وشركاته الأمنية حصانة ضد القوانين والتشريعات الوطنية.. الخ من بنود هذه الاتفاقية.
نقول الآن وقد ظهرت لحظة الحقيقة حيث رفضت مرجعيات دينية ذات وزن في الائتلاف الحاكم هذه المعاهدة، كالسيد علي السيستاني، فضلا عن التيار الصدري بالرغم من الممانعة الخجولة التي يبديها ائتلاف عبدالعزيز الحكيم، فهل ينصاع الائتلاف الحاكم لهذا الاجماع الشعبي؟ وهل تشكل كل هذه الظروف المستجدة فرصة مؤاتية لبناء أوسع ائتلاف شعبي وطني لطرد الاحتلال صاغراً ذليلاً من دون مكافآت سياسية مسبقة؟!
 
صحيفة اخبار الخليج
4 يونيو 2008