حتى الآن، لا تملك أساساً واقعياً تلك التصريحات المتفائلة لعدد من السياسيين والماليين والخبراء الغربيين بأن الأزمة الاقتصادية العالمية لا تبدو عميقة كما كان يفترض، وأنه قد تم بلوغ القاع وأصبح من الممكن رؤية النور في نهاية النفق.
شهر مارس/ آذار الماضي فقط سجل تدفقاً مالياً صافياً من الولايات المتحدة إلى الخارج بقيمة 2,48 مليار دولار. هذا يبين بوضوح أن الدعم، وحتى النمو الظاهري لسوق المال الأميركية حدث نتيجة الضخ المالي الهائل من قبل مجلس الاحتياطي الفيدرالي. وفي سبيل ذلك جندت أهم المؤسسات المالية الأميركية مثل «سيتي غروب»، «مورغان تشيس»، «غولدمان ساكس»، «ميريل» لينتش وغيرها[1]. أي أن ما يحدث هو جعل سوق الأسهم حكومياً شكلاً مغلفاً. وذلك ينذر بهزات اقتصادية اجتماعية مفاجئة غاية في الجدية، كما يحذر عدد من كبار الاقتصاديين في نيويورك. الأكثر من ذلك أن ما حذر منه اقتصاديون أميركيون مثل ليندون لاروش وتنينباوم واقتصاديون روس مثل غلازيوف وكوبيكوف وخازين وغيرهم بشأن حتمية انهيار الهرم المالي العالمي المبني على قاعدة إصدارات سندات الدين الأميركية قد أصبح قاب قوسين.
كيف نشأ هذا الهرم المالي ولماذا يجب أن ينهار؟ دعونا نتابع ذلك كما يبينه الاقتصادي سيرغي غلازيوف، لعل فيه عظة لصانعي القرارات النقدية والمالية في بلداننا[2].
في كل عام، أثناء وضع مشروع الموازنة تقوم الخزانة الأميركية بتحديد مقدار الأموال الضرورية لتغطية عجز الموازنة والوفاء بالتزامات الدين السابقة. بعدها تتخذ اللجنة المعنية قرارها بإصدار الكمية المناظرة لذلك من سندات الدولة. وأخيراً تقوم إدارة مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (التي تضم أصلاً نصف أولئك الذين اتخذوا القرارات السابقة) بتحديد كمية الإصدار النقدي الضرورية لشراء هذه السندات. وتحت ضمان رهن هذه الصكوك تحصل المصارف التجارية على الأموال التي أصدرها الاحتياطي الفيدرالي بأدنى سعر فائدة. العنصر الأساسي في هذه الآلية يكمن في عملية إعادة تمويل المصارف التجارية تحت ضمان رهن الأوراق المالية الحكومية حيث تشكل «العملية» القناة الأساسية لإصدار الدولارات.
إذاً، مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي يصدر النقد بهدف تمويل دين الدولة. وعن طريق هذه التكنولوجيا جرى إطلاق أكثر من ثلثي الكتلة الدولارية في التداول. وبحسب الخبراء لا يتعدى الغطاء من الاحتياطي الذهبي – النقدي لهذه الكتلة اليوم 4% فقط.
آلية إصدار النقد التي جرى وصفها أعلاه هي بالضبط ما يشكل الهرم المالي النموذجي. أي أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي يطبع الدولارات تحت ضمان ديون الحكومة الأميركية. والحكومة الأميركية تقترض الأموال من أجل خدمة وإطفاء الديون السابقة. وبما أن الإنفاق الأميركي يتزايد بشكل أسرع من تزايد الدخل ما يصيب الموازنة بعجز مزمن، فإن حجم الدين يظل في ارتفاع مستمر. وعليه أيضاً يتزايد إصدار الدولارات. هذه العملية تنحدر على العالم بتسارع ككرة الثلج منذ أن بدأت العام .1971 في ذلك العام رفضت الولايات المتحدة الأميركية طلب الحكومة الفرنسية استبدال دولاراتها بالذهب. وبهذا هدمت نظام العلاقات النقدية المالية العالمي القائم حتى ذلك الوقت على المعيار الذهبي المحدد لمقادير الإصدار النقدي لعملات البلدان الرأسمالية المتقدمة. ومنذ ذلك الوقت أخذت أميركا تجبر حلفاءها في الناتو، ثم دولاً أخرى، على اعــتماد الدولار بدلاً عن الذهب كاحتياطي نقدي لعملاتها الوطنية، بينما أخذت هي تصدر الدولار انطلاقــاً من حاجاتها إلى تمويل النفقات الحكــومية. وهكذا حولت أميركا دول العالم الأخرى إلى مقرضين مجانيــين لها، بينمــا تحصـل هي على «ريع صك العملة» (seigniorage أو seignoragc) على نطاق عالمي. وبما أن أكثر من نصف كمية النقد التي يصكها الاحتياطي الفيدرالي يتم تداولها خارج أميركا، يتضح أن أميركا تعيش أساساً على ما تستدين من سكان المعمورة.
آلة إصدار الدولار تدور الآن أسرع فأسرع تحت ضغط تزايد الدين الأميركي. وتشير المعطيات المتوافرة إلى أن خدمة هذا الدين تتطلب طبع 2 مليار دولار يومياً، وأضعاف ذلك في فترات معينة. وهكذا يتزايد عرض الدولارات اعتماداً على حاجة أميركا إلى مزيد من الدين، في حين أن الطلب عليها يتحدد بقدر حاجة السوق العالمي للدولارات. ويعتمد هذا الطلب على تفضيلات المستثمرين بالدولار وحجم العمليات الجارية به. وحتى وقت قريب كانت المصارف والشركات الأميركية هي التي تحدد حجم هذا الطلب فتغرق الاقتصاد العالمي بالدولارات.
لكنه مع تسارع نمو اقتصاد الدول النامية وتراجع وزن أميركا في الاقتصاد العالمي يصبح الطلب على الدولار معتمداً أكثر على نشاط الشركات الأميركية. وحكماً على وضع الاقتصاد الأميركي اليوم يمكن استنتاج أن الفجوة ما بين العرض المتزايد للدولارات والطلب المحدود عليها آخذة في الاتساع. وتبعاً لذلك يتهاوى سعر صرف الدولار، ويفقد المستثمرون بالدولار مدخراتهم. النتيجة العامة هي أن الثقة بالدولار قد اهتزت بشكل كبير، وأصبح يزاح ويستبدل بأدوات نقدية أخرى. وهذا ما يقلل الطلب على الدولار من جديد ويزيد في الفجوة بينه وبين العرض ويؤدي إلى مزيد من انهيار سعر صرفه. وابتداء من لحظة تاريخية معينة، يراها الخبراء قريبة، سيدب الذعر لدى المستثمرين وسيحدث الهروب الكبير من الدولار. وبذلك ستبدأ عملية جديدة أخرى من تسارع انهياره، وعندها سيدخل الهرم المالي العالمي الذي بنت السلطات النقدية الأميركية نموذجه مرحلة الانهيار الذاتي.
وإذا كان إصدار الدولار بهدف تمويل عجز الموازنة الأميركية هو الهدف الأساسي، فإنه ليس الوحيد للاحتياطي الفيدرالي. إنه أيضاً يصدر النقود من أجل دعم السيولة للنظام المصرفي ولتمويل النفقات الموسمية وإعادة تمويل مؤسسات الإقراض الحكومية، بما فيها الصناديق العقارية. وهذا الأخير لعب، كقناة إصدار نقدي، دوراً كبيراً في دعم النمو الاقتصادي الأميركي على مدى السنوات العشر الأخيرة، وشكل قاطرة سحب الاقتصاد الأميركي من الانهيار المالي بعد أزمة الاقتصاد الجديد في التسعينات. لكن هذه القاطرة توقفت الآن. ويأمل المتفائلون في ظهور قاطرة جديدة للخروج بالاقتصاد الأميركي من الركود الراهن، وتؤدي إلى استقرار سعر صرف الدولار من جديد.
غير أن هذا التفاؤل وصل حدوده التاريخية هذه المرة. فالعلامات الماثلة للعيان أصبحت تبين، كما جاء أعلاه بأن الهرم المالي الدولاري قد دخل مرحلة الانهيار الذاتي التي لا رجعة عنها.
صحيفة الوقت
2 يونيو 208