عادت أزمة مواد البناء لاسيما الأسمنت إلى الظهور على السطح ثانية، حيث عاد السوق وتحديداً سوق التشييد والتعمير إلى الشكوى من نقص إمدادات الأسمنت وسط طلب متنام على مواد البناء تزامناً مع موجة المد الاقتصادي العالية المستمرة منذ أكثر من أربع سنوات بسبب أسعار النفط المحلقة على ارتفاعات شاهقة تخطت منذ فبراير الماضي حاجز المائة دولار للبرميل.
واللافت أن أنباء شح مواد البناء في السوق التي تواردتها الصحافة المحلية البحرينية، قد تزامنت مع زف أنباء (في نفس اليوم) عن نجاح شركة تلال الغروب المطورة لمشروع تلال الغروب في إبرام صفقتين بقيمة 5,23 مليون دولار تم بموجبهما بيع 6 بنايات من المشروع المتفرع عن مشروع العرين التطويري الذي يتشارك في ملكيته كل من بيت أبوظبي للاستثمار وشركة صروح للاستثمار. وكذلك إعلان شركة درة البحرين التي تنفذ أكبر مشروع عمراني، سكني وتجاري، فاخر في سواحل البحرين الجنوبية، إن فلل المرحلتين الأولى والثانية سوف تسلم إلى أصحابها في شهر نوفمبر المقبل بدلاً من شهر أبريل الفائت وذلك نظراً للنقص الحاد في مواد البناء الذي يعاني منه السوق بسبب تخطي الطلب للمعروض منها.
وما الإعلان عن وجود نقص في السوق من معروض الأسمنت قدره 30 ألف طن شهرياً، سوى تعبير عن جانب واحد من أزمة شح مواد البناء.
والغريب أن المطورين (Developers) والمستثمرين العقاريين الجدد راحوا يندفعـون بقـوة في توسـيع الرقعـة الاستثمارية العقارية إلى حدودها القصوى براً وبحـراً من دون التفكـير في تبعـات الضغـط على طاقة عرض السوق المتاحة (Market disposable supply capacity).
وما زاد الطين بلة أن قطاع التشييد المحلي قد رهن نفسه بالكامل لاستمرار تدفق إمدادات الإسمنت من الدول المجاورة. ولأن الدورة الاقتصادية في هذه الدول هي بدورها في قمة نشاطها ورواجها فكان لابد لهذه الدول من أن تتخذ إجراءات لضمان تلبية حاجة أسواقها من الأسمنت المنتج محلياً.
بهذا الصدد قررت دولة الإمارات العربية المتحدة وقف صادرات مصانع الأسمنت لديها إلى الخارج لمقابلة الطلب المحلي المتصاعد وتوفير احتياجات الدولة منه ووقف تصاعد أسعاره. وكانت مصانع الأسمنت الإماراتية قد وقعت مذكرة تفاهم مع وزارة الاقتصاد في الخامس من مايو الجاري تم بموجبها تحديد وتثبيت أسعار الإسمنت بواقع 16 درهماً للكيس من المصانع مباشرة و19 درهماً من السوق. واستتبع الطرفان ذلك بالاتفاق مبدئياً على افتتاح واعتماد منافذ ومراكز لبيع الأسمنت في جميع إمارات الدولة ومناطقها.
فقط عندما أطلت أزمة عرض (Supply crisis) مواد البناء من جديد (للمرة الثانية خلال بضعة أشهر) بادر أولئك المطوِّرون والمستثمرون العقاريون الجدد إلى الإعلان عن إنشاء شركة بملياري دولار متخصصة في إنتاج الأسمنت بطاقة تغطي 30٪ من احتياجات الشرق الأوسط، حسبما أُعلن!
كيف نفهم هذا التعاطي مع هذه الأزمة من جانب كافة أطراف العملية الإنتاجية وأطرافها؟
من الناحية الاقتصادية يتمثل فهمنا لها في التالي:
(1) إن عمليــة تمددنا الاقتصادي قطاعياً: عمودياً وأفقياً (Upstream & Downstream)، وجغرافياً: براً وبحراً، تتم وفقاً لقرارات اللحظة ووفقاً لإملاءات السوق من دون أن نخلق الآلية التي تمكننا من إدارة عملية التوازن الاقتصادي التي تتحرك الاقتصادات العالمية المحدَّثة في إطار ضوابطها باعتبارها حاكماً ومرجعاً للإطار العام والمساحة ‘المخصصة’ (في المخطط العام) للحركة الاقتصادية المرنة والمنضبطة في آن. بمعنى أنها لا تجري وفقاً لمخطط عام للتنمية الشاملة حاكم لإيقاع الحركة الاقتصادية بشقيها العام والخاص، كما هو مفترض شرطاً لتحقيق عنصر الاستدامة.
(2) كما هو واضح فإن إيقاع التنمية المتسارع وفضائها المفتوح يتجاوز الطاقات المتاحة للاقتصاد الوطني على كثير من الأصعدة، المادية من حيث وفرة مصادر الطاقة الكافية، والأراضي الاستثمارية، والبشرية لاسيما قوة العمل الفنية عالية التجهيز والتمهين.
وللاقتصاد البحريني والاقتصادات الخليجية بوجه عام تجربة سابقة يتوجب عليها تَذَكُّرها دائماً لأنها تشكل مأزقها التنموي الحالي. فلقد عملت طوال عقود ما بعد الطفرتين الأولى والثانية (1974 و 1979) على تكبير أحجام اقتصاداتها الوطنية وتمطيطها على مقاسات قوة عمل (ومن بعد استهلاك واستثمار) تتخطى بكثير جداً طاقاتها الاستيعابية (لمعدلات النمو)، فكان أن أصبحت وجهاً لوجه أمام معضلة العمالة الأجنبية التي لا تهدد هوياتها وحسب وإنما هي تضغط على مخرجات الفائض الاقتصادي، ناهيك عن الأصول الثابتة.
(3) في العلاقة، المتوازنة افتراضاً، بين الدولة والسوق، يلاحظ في خضم هذه الهجمة الاستثمارية (العقارية ترجيحاً) أن دور وحركة السوق قد تخطيا جهاز الإدارة العامة أو جهاز التسيير الكلي (المجتمعي)، وهو ما يجب التحرز منه لأن فيه فتحاً لأبواب اختلالات قد تفضي إلى نوع من اللانظام أو الفوضى المذمومة.
(4) لقد أدت حركة التدافع الاستثماري (العقاري أساساً) إلى إحداث نوع من التسخين الزائد في الاقتصاد (Over-heated economy) يمكن مشاهدة تجسيداته في معدلات النمو المرتفعة وفي معدل نمو عرض النقود المتاحة في السوق من قبل الجهاز المصرفي، وفي تخطي الطلب للعرض في عدد من القطاعات الأكثر استقطاباً للاستثمار خصوصاً قطاع الإنشاء.
ونعلم جميعاً الآثار التي يمكن أن يخلفها مثل هذا التسخين الزائد على معدل التضخم السنوي، ومن خلاله، على بقية مؤشرات ومتغيرات .
صحيفة الوطن
1 يونيو 2008