يكتسب خطاب القسم الذي القاه الرئيس اللبناني ميشال سليمان أمام البرلمان دلالاته المهمة إزاء التحديات والمهام الراهنة الملحة التي تواجه لبنان من جوانب عديدة، ومن أهمها موقف الدولة وعلاقتها بالمقاومة الوطنية ولاسيما في ظل استمرار احتلال اسرائيل لجزء من التراب اللبناني والمتمثل في مزارع شبعا وتلال شوبا، وهنا تكمن بالضبط دلالات الفقرات التي وردت في خطاب الرئيس سليمان بما تنطوي عليه من مواقف مبدئية وطنية تجاه الاحتلال وتجاه المقاومة معا والتي اتخذها بحزم ووضوح مدشنا بها عهده الجديد في ظل الظروف الدقيقة البالغة الخطورة التي تمر بها بلاده غداة ازمة الصدام المسلح الاخير الذي عصف بلبنان عدة أيام قبل انطلاق حوار الدوحة الذي مهد الأرض لانتخاب رئيس توافقي جديد ممثلا في الرئيس ميشال سليمان ذاته.
وفي هذا الصدد أكد سليمان بعبارات لا تقبل اللبس أو المراوغة “إن نشوء المقاومة كان حاجة في ظل تفكك الدولة، واستمرارها كان في التفاف الشعب حولها، وفي احتضان الدولة كيانا وجيشا لها، ونجاحها في اخراج المحتل يعود الى بسالة رجالها، وعظمة شهدائها، إلا ان بقاء مزارع شبعا تحت الاحتلال، ومواصلة العدو الاسرائيلي لتهديداته وخروقاته للسيادة يحتمان علينا استراتيجية دفاعية تحمي الوطن، متلازمة مع حوار هادئ للاستفادة من طاقات المقاومة، خدمة لهذه الاستراتيجية، ونحفظ بالتالي قيمها وموقعها الوطني”.
وفي سياق إشارته للتحديات الامنية القومية الكبرى التي تواجه لبنان في ظل بقاء جزء من اراضيه تحت الاحتلال الاسرائيلي، ومواصلة ما وصفه بكل شجاعة “العدو الاسرائيلي” لتهديداته وخروقاته للسيادة، لم ينس الرئيس سليمان المهمة الوطنية الملحة الاخرى المترابطة مع مهمة بناء استراتيجية الدفاع الوطني والاستفادة مما وصفها بطاقات المقاومة، الا هي مهمة العمل الدؤوب لاطلاق الاسرى والمعتقلين من سجون الاحتلال “وكشف مصير المفقودين واستعادة ابنائنا الذين لجأوا إلى اسرائيل فحضن الوطن يتسع الجميع”.
ان أهمية هذا الموقف الوطني المبدئي الشجاع الذي اتخذه الرئيس الجديد المنتخب ميشال سليمان انما تكمن فيما تعرضت له المسألة الوطنية، أي قضية تحرير الأرض من الاحتلال من تعقيدات والتباسات عديدة جمة داخل لبنان وعلى مختلف الاصعدة الاقليمية والعربية والدولية على امتداد 30 عاما بالتمام والكمال منذ الاجتياح الاسرائيلي للجنوب في مارس عام 1978، ومرورا بالغزو الاسرائيلي عام 1982، وليس انتهاء ببقاء جزء من الاراضي اللبنانية تحت الاحتلال حتى بعد تحرير الجنوب (مزارع شبعا) عام 2000 ثم عدوان صيف عام 2006 الفاشل. وطوال هذه الظروف والمراحل التي مر بها لبنان في ظل الاحتلال الاسرائيلي لجزء من اراضيه كانت المسألة الوطنية محورا رئيسيا من محاور السجال المحتدم والصراع الداخلي بين الفرقاء اللبنانيين، وعلى الاخص طوال سني الحرب الاهلية (1975-1990)، حتى بلغ الأمر ان طرفا يمينيا معروفا في هذا الصراع كان لا يجد حرجا في الدفاع عن هذا الاحتلال الغاشم وتبرير اسبابه بل والتعاون مع المحتلين ملقيا باللائمة في حدوثه على المقاومة الفلسطينية فحسب أو على الفريق اللبناني المتحالف معها والذي على حد تعبيره يخوض هو والعرب حروبا داخلية بالوكالة عن القوى الاقليمية والدولية في تفجير الوضع الداخلي اللبناني.
وينسى هؤلاء أو يتناسون ان اسرائيل ظلت على الدوام ومازالت تشكل خطرا داهما على الامن القومي اللبناني، كما الامن القومي العربي الشامل، منذ انشائها عام 1948 في قلب الوطن العربي واحتلالها فلسطين، وقد ازداد هذا الخطر الاسرائيلي على الامن القومي اللبناني بعد هزيمة 1967 فاحتلال اسرائيل بعد ذلك لجزء من الأراضي اللبنانية وانطلاق مسلسل اعتداءاتها الوحشية المتواصلة على لبنان. وبسبب هذه الاشكالية المعقدة التي انقسم اللبنانيون حولها، ونعني بها الاحتلال ومشروعية المقاومة، غابت هذه المهمة الوطنية ومفرداتها اللغوية عن الخطاب السياسي لأربعة رؤساء لبنانيين متعاقبين عاصروا الاحتلال الاسرائيلي وهم على التوالي كل من الياس سركيس (1976-1982)، وبشير الجميل (أغسطس 1982 – سبتمبر 1982)، وأمين الجميل (1982-1988)، ورينيه معوض و(اغتيل بعد 17 يوما من توليه سدة الحكم).
ولم تظهر هذه المهمة كقضية ومسألة وطنية ملحة في الخطاب السياسي لرئيس الدولة إلا في ظل عهد الرئيس الراحل الياس الهراوي (1989-1998)، ثم في عهد أميل لحود (1998-2007). وما كانت لتظهر هذه المسألة الوطنية خلال عهدي هذين الرئيسين وتفرض نفسها لو لم تقو شوكة المقاومة وتقض مضاجع الاحتلال، ولو لم يتعاظم خطر الاحتلال على كل اللبنانيين بعدما تزايدت اعتداءاته وجرائمه الوحشية التي طاولت كل اللبنانيين للثأر من المقاومة وتأديبها على عملياتها العسكرية في مكافحة الاحتلال. ولعل واحدة من المفارقات التي لا تخلو من مغزى في المرحلة التاريخية الراهنة من الصراع العربي – الاسرائيلي وما آلت إليه الاوضاع العربية من تدهور مريع بغياب كل اشكال الممانعة العربية تجاه اسرائيل وانكشاف مظلة الامن القومي العربي ونزوع اغلب الدول العربية للتطبيع والصلح معها انصياعا للإملاءات الامريكية ان لبنان يكاد يكون هو الدولة العربية الوحيدة اليوم الذي ينعت اسرائيل رسميا على لسان رئيسه بـ “العدو الاسرائيلي”، فحتى السلطة الفلسطينية شطبت من قاموسها وخطابها اليومي هذه المفردات وهجرتها لكي لا تغضب اسرائيل والصديق الامريكي.
وما كان هذا الموقف المبدئي على لسان الرئيس لولا ان المقاومة اضحت قوة ومعادلة جديدة يحسب لها ألف حساب في الوفاق الوطني الداخلي، وبخاصة بعد دحر الاحتلال عام 2000، وإفشال الاحتلال الاسرائيلي الغادر صيف 2006، فهل يكون هذا الموقف المبدئي الذي اتخذه الرئيس الجديد ميشال سليمان كرئيس توافق عليه الفرقاء اللبنانيون تجاه المقاومة، كحق وطني مشروع، بداية عهد جديد لتعاون الدولة وجميع الاطراف مع المقاومة نحو صياغة استراتيجية الدفاع الوطني التي نادى بها الرئيس الجديد المنتخب لتحرير الارض والاسرى والدفاع عن الوطن وعدم الانفراد بقرارات الحرب والسلم من قبل طرف وطني وحده وحسب مزاجه وتقديراته الحزبية الخاصة؟
صحيفة اخبار الخليج
1 يونيو 2008