منذ أن انتقل الشأن الاقتصادي إلى مجلس التنمية الاقتصادية، قيل كلام كثير حول الإصلاح الاقتصادي وكلام كثير عن أولويات النهوض بالعمل الاقتصادي والتنموي، وكلام أكثر عن الرؤية والاستراتيجية الاقتصادية المستقبلية التي بُشِّرنا ووُعدنا بها.
ولازلنا في انتظار تفاصيل هذه الرؤية والاستراتيجية التي نأمل أن تكون بمثابة “البوصلة” الهادية للجميع؛ والقادرة على تحديد أولوياتنا وخياراتنا الاستراتيجية، هل نريد الدولة الموجهة؟ أم الدولة الراعية، أم الدولة المديرة، وتالياً هل نريد أن تكون البحرين مركزاً مالياً ومصرفياً عالمياً أم مركزاً إقليمياً للمعلوماتية والفرص الواعدة والتدريب والصحة والتعليم، أم دولة سياحة وخدمات من النوع التي تشكل قيمة مضافة عالية للاقتصاد، أم دولة صناعية، وأي صناعة نريد، هل نريد صناعة بحرينية في البحرين، أم نريد أن نقيم صناعة في البحرين، وفي أي اتجاه ندفع الاستثمارات، وأي استثمار نريد؟
واذا كنا لا نجد تفسيراً منطقياً حتى الآن للسرية المفروضة على مشروع الرؤية والاستراتيجية، ولم يفصح حتى الآن من باب الشفافية على الأقل عن ملامحها العامة أو خطوطها العريضة، فإن ما يجب أن يفهم على وجه الدقة أن المستقبل الاقتصادي للبلاد يجب أن يكون أهم شواغلنا وأدقها في هذه المرحلة، وأنه لم يعد مقبولاً أمام التحولات الجارية والتحديات القائمة أن نقف جامدين أمام بوابة الإصلاح الاقتصادي الحقيقي المنشود دون أن نطرق بابه، كما يجب أن يفهم بأن الرؤية والاستراتيجية الاقتصادية يجب أن تكون مشروعاً وطنياً يفترض أن يتحول إلى برامج وخطط مدروسة وسياسات معلومة لها اطار زمني للتنفيذ، وقدرة والتزام على التطبيق بصدق وحزم، وهذا يقتضي أن نخضع هذا المشروع الوطني للنقاش والحوار على أوسع نطاق حتى يكون هذا المشروع ملبياً للقدر المأمول من التطلعات والتوقعات والنتائج والحسابات المدروسة دون أن ننسى بطبيعة الحال المسؤولية التضامنية بين مجلس التنمية الاقتصادية والحكومة من جهة، ومجلس النواب من جهة أخرى – رغم كل تحفظاتنا على اداء هذا المجلس – كشرط أساسي للدفع بمشروع الرؤية الاقتصادية، والإصلاح الاقتصادي إلى الأمام، على أمل أن لا يخضع النواب الشأن الاقتصادي لمناكفات وتجاذبات، ومواقف معرقلة وشكوك متبادلة لمصالح ضيقة ولحسابات خاطئة.
ولا بأس اذا وجدنا أنفسنا ونحن نتحدث عن الرؤية والاستراتيجية الاقتصادية المستقبلية للبحرين أن نبدد طاقتنا من جديد في إثبات البديهيات، وفي هذا السياق وحتى يكون هذا المشروع الوطني فاعلاً ومجدياً ويأخذ مداه الحقيقي، فإن من صميم متطلبات هذه الرؤية والاستراتيجية:
- “سياسة” مالية واقتصادية ثابتة من حيث الأساس ومتطورة من حيث الزمن.
- “إدارة” مالية واقتصادية نزيهة وكفوءة، لأن أي خطة اقتصادية مهما بلغت من النضج والواقعية لا يمكن أن تأخذ طريقها الجدي إلا اذا توفرت لها ادارة قادرة على حمل عبء هذه المسؤولية، وادارتنا الحالية لديها ما يكفي لتكبيل وتجميد أي خطة.
- “قضاء” مالي واقتصادي فاعل وناجز وسريع ويتمتع بكامل الاستقلالية.
- “أمن” مالي واقتصادي يشعر المرء بأنه في دولة حاكمها الأول القانون.
- “إعلام” مالي واقتصادي صادق ودقيق وعلمي ومعبر عن الالتزام بالشفافية.
كل ذلك يقتضي من جملة ما يقتضيه التسليم بضرورة التخلص من النظرة إلى المال العام على أنه إرث أو غنيمة، بل أمانة تستوجب حمايته وصيانته والدفاع عنه من أي عبث أو تطاول أو تعدٍ واعتبار ذلك مساساً بالخيارات التنموية ومعرقلاً لها ولأي جهد اصلاحي.
وصار لازماً إلى جانب ذلك تفعيل آليات محاسبة البيروقراطية في الإدارة الحكومية التي تربت في أجواء ومناخات جعلتها محصنة من أي مراجعة أو محاسبة أو مساءلة، الأمر الذي أوجد أناساً يرتزقون منها، ويقتاتون منها، ويكوّنون حساباتهم منها، وبنوا العمارات واشتروا الأراضي في البر والبحر بسبب ما أفرزته من مظاهر شتى من التجاوزات والانحرافات والفساد، ويصبــح “الإصلاح الإداري” أمراً حتمياً وملحاً ولا ينبغي أن يكون شعاراً كغيره من الشعارات، إصلاحاً ادارياً يعزز النزاهة والمساءلة والإدارة السليمة للشؤون العامة والممتلكات العامة، ولا يدفع بالجلوس على مقاعد المسؤولية من يأتي بالصدفة أو الخطأ أو سرعة الاختيار بذريعـة “هذا ولدنـا” وهــذا “من جماعتنا”، وهذا “من طائفتنا” وهـذا “موضع ثقتنا”، فالمرحلة الراهنة والمقبلة لا تحتمل هذا العبث، ولا تتطلب سوى وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ولابد أن يؤخذ في الحسبان أنه لم يعد مجدياً ولا منطقياً ونحن نتحدث عن التغيير والإصلاح والتطوير أن نجد أشخاصاً بعينهم مهما بلغت كفاءتهم وحكمتهم، ومهما كانت نزاهتهم وقدراتهم أن تناط بهم مواقع قيادية ومسؤوليات متعددة هنا وهناك وهنالك في آن واحد، فيما تعطل فرص كفاءات شابة قادرة على أن تتبوأ المناصب بكل اقتدار، وقادرة على تحمل المسؤولية، وأن تكون صفاً قيادياً ثانياً اذا ما أعطيت لها الفرصة لتضخ دماء جديدة في شرايين العمل العام.
وسيكون من قبيل القصور الشديد في أي رؤية أو استراتيجية اقتصادية اذا لم يؤخذ بعين الاعتبار خطورة انحسار الطبقة المتوسطة التي هي عادة ما تكون في أي مجتمع صمام أمان وعماد أي اقتصاد وقاعدة التوازن الاجتماعي، وبانعدامها تفقد السفينة بوصلة التوجه وتمسي عرضة للمجهول وهواجس أهوائه، هذا أولاً، وثانياً لابد أن ندرك تمام الإدراك أن أي تنمية اقتصادية بشقيها الاقتصادي والاجتماعي لا يستفيد منها المواطن لا يمكن أن تكون تنمية، وإن كان البعض يراها تنمية فهي تنمية تنفخ في قربة مقطوعة مادام المواطن ليس هو الهدف أولاً وأخيراً، وإذا كانت الأرقام التي تعلن بين الفينة والأخرى عن النمو والتنمية والإنجازات هي أرقام قد نتفق أو نختلف حول دقتها ومصداقيتها، إلا أنها طيبة تدل بحسب رأي البعض على ما حققناه ونحققه من تقدم على المسار الاقتصادي، إلا أن تلك الأرقام برأينا لا تعكس حقيقة أحوال الناس على أرض الواقع، فهي ليست على المستوى الذي يتمشى ويتسق مع ما تؤكده أو تعبر عنه تلك الأرقام، خاصة أمام مظاهر تزايد من باتوا في حاجة إلى الحماية من مخاطر الضنك وقبضة الفقر.
واذا جاز لنا أن نجتهد وأن نعرض المزيد من الأولويات التي يتعين أن تتضمنها الرؤية والاستراتيجية الاقتصادية أو تكون موضع اعتبار، فإننا نحسب في هذا السياق اعتماد منهج التخطيط الذي يعني بطبيعة الحال عكس الارتجال، بالإضافة إلى ضرورة حسن استثمار الزيادة الكبيرة في عائدات النفط لتوفير وسائل التنمية ومقوماتها، وتعزيز أدوات التنبؤ بآفاق الاقتصاد وفرصه، وسيادة حكم القانون على الجميع، وإزالة حالة عدم اليقين حول جدية الإصلاح الاقتصادي الفعلي لتكون جميعها من بين الأولويات، علاوة على أولويات تتصل بتحقيق أكفأ توزيع وأفضل استخدام للموارد والثروات الوطنية بما في ذلك الموارد البشرية، والانتقال من اقتصاد قائم على الثروة النفطية إلى اقتصاد منتج قادر على معالجة الضغط على سعر صرف الدينار، والتضخم، وتراجع مداخيل المواطنين، اقتصاد يشجع على توسيع الطبقة الوسطى خاصة من خلال زيادة معدلات الإنتاجية والوظائف ذات القيمة المضافة والرواتب العالية، ويرسي المبادىء والقيم التي تربط العملية الاقتصادية بأجملها بالعدالة الاجتماعية والتنافسية والتنمية المستدامة دون أن يتجاهل تحسين مناخ الأعمال وتنمية الصادرات وتعزيز دور كل من القطاع الخاص المعني بتحمل نتائج القرار الاقتصادي وأول المعنيين بتنفيذه ودور المجتمع المدني في المحاسبة والمساءلة والرقابة ومواجهة الفساد، ولذلك لابد أن نفتح ملف الإصلاح الاقتصادي كاملاً وبجرأة وحسم دون تردد أو ترضيات، وإلا فلا.
صحيفة الايام
30 مايو 2008