الفكرة السائدة عن المسودات تجعلها في مرتبة أقل من تلك المرتبة التي للنصوص في صيغتها النهائية المعدة للنشر أو المنشورة. فالثانية حسب الاعتقاد السائد هي الخلاصة المتقنة أو الأقرب إلى الاتقان، أما المسودة فإنها أقرب إلى الأفكار المبعثرة غير المترابطة، إنها أشبه بالتدريب الأولي على كتابة ما ينوي الكاتب كتابته وتقديمه للآخرين، أقرب إلى “السكتش” الذي يضعه الفنان التشكيلي للوحته. لكن ما أكثر ما تجري العودة للمسودات سواء من قبل الكتاب أنفسهم الذين يظنون أن فيها “خامات” أفكار للكتابة لم تستثمر كفاية في النص النهائي الذي أخذ من هذه المسودات، أو من قبل الباحثين الذين يهتمون بدراسة ما تركه كبار الكتاب والمفكرين من أعمال أو بسيرهم الذاتية.
وما أكثر المفكرين الذين نشرت مسوداتهم بعد وفاتهم تحت عناوين من نوع “المخطوطات” تمييزاً لها عن تلك الأعمال التي نشرها هؤلاء المفكرون في حياتهم، لنجد أن في المخطوطات أطروحات جديدة لم تنشر، وأحياناً تبدو بعض أحكام هذه المخطوطات متناقضة مع تلك الأحكام التي نشرها هؤلاء الباحثون أو المفكرون على القراء. ربما لأنهم، عند وضع المخطوطات، كانوا يتدربون على الوصول لحلول للقضايا التي كانوا يبحثون فيها، ولكنهم في مجرى البحث أعادوا النظر في هذه الحلول، أو استنتجوا حلولاً أخرى مغايرة تماماً، كتلك الاستنتاجات التي يتخلى عنها الفيزيائي أو الكيميائي بعد المزيد من التجارب في المختبر على الفرضيات التي يقدمها.
لاعب الشطرنج الشهير كاسباروف قال مرة إنه يعتبر النقلات التي فكر فيها ولكنه لم يقم بها على قطعة الشطرنج جزءاً من النقلات التي قام بها فعلاً. كأنه يقول أن تلك النقلات التي كانت مجرد أفكار في الذهن قبل أن تأخذ طريقها للتنفيذ، هي المقدمة التي لا بد منها للنقلات التي نفذت. وفكرة “كاسباروف” تحيل إلى فكرة المسودة، فكرة “السكتش”، أو الشيء وهو في صورته الأولية قبل أن يصبح منجزاً. ولكن الأمر في حالة المسودات أو المخطوطات التي لم ينشرها أصحابها يختلف لأنها تقدم فكرة أوسع عن مخاض الوصول إلى المعرفة، أو مخاض الإبداع، وكم من المناطق التي على المرء عبورها للوصول إلى ما يظنه الأداء الأفضل أو القناعة الأصح.
صحيفة الايام
28 مايو 2008