لبنان هذا البلد العربي الفريد في جماله الطبيعي، وفي تكوينه الثقافي الحضاري، وفي تعدديته السياسية والدينية التي تلون فسيفساء نسيجه الاجتماعي البديع.. لبنان بلد الحريات والصحافة والثقافة والموسيقى والابداع الفني.. هل مازال يستحق كل هذه الحروب الاستنزافية المتواصلة على امتداد اكثر من 40 عاماً منذ هزيمة يونيو 1967م؟ الم يحن بعد لهذا البلد الجريح ان يرتاح والذي كتب عليه ان يدفع فاتورة ليست تناقضاته السياسية والدينية والاجتماعية بل ان يجعل ساحة مفتوحة للتناقضات والصراعات العربية والاقليمية والدولية المختلفة وتصفية الحسابات المتبادلة، وغالبا ما يتم ذلك بمساعدة قوى سياسية ودينية داخله بوعي منها او من دون وعي؟
هل يكون اتفاق الدوحة هذه المرة مسك الختام لسلسلة التسويات التي سرعان ما تنهار على الارض لتبدأ سلسلة جديدة من الحروب والمعارك الداخلية؟ الى متى سيظل اللبنانيون لا يتعظون من دروس حروبهم العبثية المدمرة العاجزة عن فرض انتصارات نهائية لهذا الطرف او ذاك على حساب الاطراف الاخرى؟ ومتى تدرك القوى المتصارعة انها مهما اوغلت في التحدي والعناد تجاه طرف غريم او مكون اساسي من المكونات اللبنانية فإن هذه القوى جميعها محكومة في النهاية بحل بالتوافق والتراضي فيما بينها وان لا حل بغير ذلك وان كل المراهنات العسكرية او على القوى الدولية ثبت عقمها او عدم جدواها؟
ألم تكن تجربة 15 عاماً من الحرب الاهلية المدمرة التي اكلت الاخضر واليابس بكل معنى الكلمة كافية للاتعاظ من دروسها المريرة، وهي الحرب التي اعترف كل اطرافها، بعد ان طارت سكرة الطيش العسكري المتبادل وحلت الفكرة، بأنها كانت حربا عبثية مجنونة وخرج جميع اطرافها منها خاسرين؟ اذا كان واحد من ابلغ الشعارات مغزى التي شكلت ضغطاً على المتحاورين في الدوحة هو ذلك الذي رفعته مجموعة من المقعدين وجلهم من ضحايا الحرب الاهلية على طريق مطار بيروت “اذا ما اتفقتوا ما ترجعوا” اثناء توجه مواكب وفود الفرقاء الى المطار للمغادرة الى الدوحة، فلعل الشعار الأهم والاكثر مغزى من ذلك يتمثل في التساؤل الساخر المرير الذي اطلقه العديد من اللبنانيين من سياسيين وعاديين غداة اتفاق فرقائهم في الدوحة: هل كان لزاماً عليهم ان يدخلوا في تجربة كل هذا الجنون المدمر والخراب والدم ليتفقوا بعدئذ في الدوحة؟ اما كان توافقهم قبل كل ذلك الخراب والدماء التي سفحت افضل واكثر جدوى؟
ان غياب العقلانية وتضييع قراءة الواقع اللبناني بكل تضاريسه المعقدة في لحظة التأزم وتصاعد التوتر والتوهم بانتزاع مكاسب ساحقة بتركيع الخصم او بسجنه تحت شعارات ديماغوجية وشعبوية مختلفة هي غالباً تقف خلف انفلات ضبط النفس والدخول في حلقة جديدة من مسلسل المغامرات العسكرية المتواصلة، ولن ينتهي هذا المسلسل الا اذا ظلت العقلانية والحكمة متقدتين حتى في احلك الظروف، واخذ اللبنانيون شئون بلدهم بزمام ايديهم متوافقين متحدين بعيداً عن اي تدخلات او اي وصايات خارجية عربية كانت ام اقليمية ام دولية. ومن دون ذلك سيظل لبنان اسيراً الى هذه الدوامة او الحلقة المفرغة من الحروب والمعارك المتصلة لتضاعف من نزيف هذا البلد العربي الجميل المعذب المنهك.. فهل يتعظ اللبنانيون هذه المرة بعد اتفاق الدوحة من دروس الماضي؟ نأمل ذلك.
صحيفة اخبار الخليج
27 مايو 2008