قرأت لرئيس مجلس الأمناء في المعهد الملكي للدراسات الدينية الأمير الحسن بن طلال حديثاً صحافياً يدعو فيه إلى الاهتمام بأوضاع المسيحيين العرب، ملاحظاً أن الغرب يقدم حوافز لمسيحيي الشرق الأوسط للهجرة إليه، انطلاقا من شعور بأن المسيحية تتمحور حول الغرب، وللخلاص من جوٍ متوتر ليس من صنع أيديهم.
والحق أن الهجرات المسيحية من البلدان العربية ليست جديدة، فأغلبية المهاجرين العرب في الأمريكتين، خاصة في الولايات المتحدة والأرجنتين والبرازيل وكولومبيا والدومينيكان والإكوادور وغيرها هم مسيحيون، وفي البرازيل وحدها يبلغ السكان من ذوي الأصول العربية نحو اثني عشر مليوناً، معظمهم من المسيحيين. ويبلغ عدد المسيحيين المتحدرين من القدس في مدينة سيدني باستراليا وحدها أكثر من عدد المتبقين منهم في القدس نفسها.
لكن تفريغ العالم العربي من مسيحييه ينطوي على مخاطرة كبيرة، لأنه يمس جوهر التعددية الدينية والحضارية في الشرق العربي، التي كانت مصدر ثراء فكري وتفاعل ثقافي وحضاري خلاق، أعطى العروبة أبعاداً أكثر عمقاً، خاصة حين نتذكر أن عددا من أبرز رواد النهضة العربية ودعاة الفكر القومي والتحديثي فيها كانوا يتحدرون من أصول مسيحية. وأظهر هؤلاء مقدرة على استيعاب مكونات المجتمع العربي، ولدور الاسلام بوصفه حاملاً تاريخياً للتكون العربي، لذا فإنهم لم يسعوا إلى تأسيس حركات للمسيحيين، بل كان ما أسسوه، أو ساهموا في تأسيسه من حركات تضم المسلمين والمسيحيين وغيرهم من أبناء الأقليات الدينية والعرقية.
حسبنا هنا أن نورد بعض الأمثلة، فالمسيحي اللبناني سليم تقلا هاجر إلى الإسكندرية المصرية ليصدر منها الجريدة العربية الأهم، من وجهة النظر التاريخية، نعني بها جريدة “الأهرام”. مثله يمكن أن نذكر الشاعر ابراهيم اليازجي، وناصيف اليازجي الذي أسس الجامعة الثقافية ووضع قاموساً جامعاً للغة العربية، ويمكن أن نضيف أسماء أخرى، في مراحل تاريخية مختلفة، من دعاة النهضة والتنوير والإصلاح من المسيحيين العرب مثل جورجي زيدان ومارون عبود.
وكان عدد من مؤسسي الحركات القومية والتحررية العربية مسيحيين، مثل أنطون سعادة مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي دعا إلى وحدة سوريا الكبرى، وميشال عفلق وصلاح البيطار اللذان أسسا حزب البعث، وكان يوسف سلمان “فهد” وبعض أبرز رموز الحركة اليسارية والديمقراطية العراقية في بواكيرها مسيحيين، وتأسست حركة القوميين العربي بمبادرة من قسطنطين زريق وجورج حبش ووديع حداد. في ظروف الاحتلالات والغزوات الأجنبية والحروب الأهلية التي تجتاح أكثر من بلد عربي، تزداد ظاهرة هجرة المسيحيين العرب من بلدانهم تحت ضغط التطرف والتعصب، الذي اتخذ في حالات كثيرة مظاهر العنف الدموي ضدهم، كما حصل في العراق في الفترة الأخيرة، ويبدو ذلك وجهاً من أوجه الأزمة الشاملة التي تطال مجتمعاتنا في أحد أهم مكوناتها.
صحيفة الايام
27 مايو 2008