نجحت اللجنة الوزارية العربية في لم شمل الفرقاء اللبنانيين وأقنعتهم بسرعة بإيقاف الصدامات العنيفة في الساحة اللبنانية والجلوس على طاولة الحوار في الدوحة عن طريق حوار وطني سياسي يتوصل فيه الطرفان المتخاصمان – المعارضة وفريق الأغلبية في النظام – على صيغة يتوصلون فيها إلى تسوية عادلة ترضي الأطراف جميعها بحيث تنقذ تلك التسوية الواقعية القائمة على سياسة التنازلات والواقعية السياسية حول مصير لبنان المهدد بحرب أهلية مدمرة.
ولكي يخرج الجميع من قاعات شيراتون الدوحة وهم متفقون على مبادئ وأسس، ويوقعون اتفاقات يحترمونها ليس في الدوحة فقط، وإنما على أرضهم وبين شعبهم بعد أن يزيلوا عنهم كل ألوان الجفوة ويدخلوا حلبة التنافس الديمقراطي والقبول بما يتفقون عليه ويجعلوا من الشرعية الدستورية ميثاقاً لا بد وان يتم تقديسه واحترامه والدفاع عنه بدلا من الدخول في لعبة الانقلابات المسلحة، وفرض سياسة القوة والأمر الواقع على أي حكومة منتخبة وعدم ترك القوى الخارجية تتدخل بشكل سافر في الشأن اللبناني.
ولكي ينجح كل اتفاق وتسوية لبنانية – لبنانية، فإن أهم مسألة هو عدم الخضوع لأي مؤثر إقليمي أو دولي في التدخل واللعب بالورقة اللبنانية، فمثل هؤلاء لا يرون من لبنان إلا ساحة لمصالحهم أولا وأخيرا، وهم لا يهتمون بحجم الاقتتال والخسائر البشرية والمادية بقدر ما يرون في الحروب الأهلية مصالحهم الاستراتيجية، وسيكون حوار الدوحة مقياسا لمثل صداقة هؤلاء إلى لبنان وتقدمه ونجاح مفاوضاته الداخلية.. فكل الأسلحة والمبالغ والضغوطات السياسية التي مارستها تحديدا إيران والولايات المتحدة وإسرائيل والاتحاد الأوروبي بزعامة فرنسا لا تعبر إلا عن رغبات ونوايا خفية لصراعات وتصفية حسابات مع بعضهم البعض، كما إن تصرف بعض البلدان العربية في التلاعب بالورقة اللبنانية ودخولهم في نزاعات سياسية ومذهبية وخلافه جعلت من الواقع اللبناني مركز صراع وتوازنات بينها، ما دفع التجاذبات السياسية والعـصيان المدني مؤخرا نحو العنف والاقتتال وفتح بوابة وشهية التيارات الأقرب إلى تنظيم القاعدة كما حدث في نهر البارد، مهددة لبنان بنهج العراق وتجربته المريرة.
فإذا ما كان النزاع بين الأغلبية والمعارضة سابقا نحى في مظـاهره وتوجهاته إلى أشكال سياسية، فإن تحول التوترات السـياسية هذه الأيام في بيروت بدا برائحة طائفية عكـست نفسها بقوة في الاقتتال في طرابلس، فقد ارتفعت حدة ولغة الطائفية بكل وضوح، فوجد الراغبون في إشعال الفتنة فرصة بتحويل الصراع السياسي بين طرفين احتضن في داخله كل مقومات الشـعب والطوائف اللبنانية كما نراها في صفوف المعارضة وصفوف الأغلبية بالجبل.
وفي مدينة طرابلس القائمة تاريخيا على التـعددية الدينـية والـطائفية؛ فخرجت للشوارع هذه المرة بدوافع طائفية معلنة تلك الأعلام السوداء رغبتها في المواجهة والصدام وكأنما رائحة وذكرى نهر البارد تسـتيقظ وجحـافل بن لادن المتوثبة تشعل فتيل النيران الأولى لكي تتحول غابة لبنان حريقا، وبعدها ستكون المشاعل تلك موجهة إلى ثلاث فرق دفعة واحدة، المسيحيون والدخلاء من الاستعمار الأمريكي الصليبي وحليفته إسرائيل والطرف الثالث الشيعة المدعومون من إيران مالا وسلاحا.
هكذا سيجد العرب وضع لبنان ممزقا بحرب أهلية طائفية إذا ما تركوا للقادمين من خارج لبنان وداخلها القبول بلعبة طائفية مقيتة وقاتلة، إذ على اللبـنانيين أن يضعوا نصب أعينهم التجربة العراقية بكل صرامة وألم وواقعية، ولكي ينقذوا بلدهم عليهم تجنب المصير العراقي والتعلم من تجربتهم السابقة في حرب أهلية مدمرة لم تجلب إلى بلدهم إلا التعطيل والخراب والتأخر عن مواصلة التنمية والازدهار الذي بإمكان لبنان المتوازن والعادل تحقيقه بكل جدارة..
المهم أن يحدد اللبنانيون وهم يذهبون إلى انتخابات مقبلة أي نوع من الأنظمة السياسية يريدون مستقبلا؟ فالانتخابات والانتصار على طريقة حماس وسيطرتها على الحكومة لا يعني أنهم قادرون على تـغيير الـعالم؛ فهـناك قوى دولية قادرة على عزل لبنان وتدميره وحصاره إذا ما حاول أي طرف تغيير دفة النظام السياسي في لبنان عن مساره الليبرالي وديمقراطيته المطلوبة وانفتاحه على العالم الخـارجي؛ فالمهم أن لا يفهم المنتصرون والخـاسرون في الانتـخابات المقبلة أن لبنان مشروع إيراني ونموذج مماثل، مثلما لا ينبغي للإسلاميين من الطرف الآخر أن يتخيلوا أن مشروعا إسلاميا سلفيا هو حلمهم القادم.. فلبنان بلد قام على التعددية، ومن الضروري أن يبقى لبنان ديمقراطيا تزدهر فيه الحريات.
وينبغي أن ينظر أثرياء الأغلبية في النظام إلى واقع البؤس والعطالة والفساد، فكلما تعمقت التناقضات في لبنان فإن الانفـجارات الاجتماعية لن تكون بعـيدة ولن تتفرج عليها المعارضة دون اهتمام، إن لم تقدْها وتحركها فالمهم في كل حكومة لبنانية تحقـيق التوازن الاقتـصادي والاجتماعي بين السكان وتوزيع الكعكة بين الجميع بشكل عادل.. وقد كان لطيفا الشعار الذي حمله ضحايا الحرب الأهلية السابقة حين كتبوا: “إذا ما اتفقتوا ما ترجعوا”.. فلعلها تكون دلالة عميقة لذوي البصيرة، وبأنهم ضاقوا ذرعا بالجميع؛ فضحايا الاقتتال والحرب الأهلية يدركون نتائجها.
صحيفة الايام
27 مايو 2008