مهمات اليسار المبنية على أساس التحديات المذكورة:
إن وقوفنا على التحديات التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة، نجد أن هذه التحديات تفرض على اليسار مهمات صعبة، تقتضي منه القيام بانجازها على أساس تجاوز تلك التحديات، في أفق انخراطه في الفعل المؤدي إلى الارتباط بالجماهير، من أجل إقناعها بالانخراط في العمل اليومي، انطلاقا من برنامج محدد، ومحسوب في الزمان، والمكان، يؤدى إلى تحقيق التغيير المعبر عن طموحات اليسار من جهة، وعن طموحات الجماهير الشعبية من جهة أخرى.
وإذا كان المفروض في اليسار أن يتفاعل مع الواقع تفاعلا يهدف إلى الإمساك بالقوانين المتحكمة في الواقع الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي، من أجل التحكم بتفعيلها في مسار الواقع نفسه، وفق ما تقتضيه مصالح الجماهير الشعبية الكادحة، وفي أفق ضمان تحقيق الحرية، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، باعتبارها عناوين كبرى، لما بعد تجاوز التحديات، والقيام بالمهمات المطلوبة لأجل ذلك.
فما هي المهمات التي يفترض قيام اليسار بها، بناء على استيعابه للتحديات المذكورة؟
إن اليسار عندما يتحدد مفهومه الصحيح، وعندما ينتظم بناء على اقتناعه الإيديولوجي القائم على أساس الاقتناع بالاشتراكية العلمية، وعندما يستطيع التخلص من التطلعات البورجوازية الصغرى، وعندما يعمل على تنقية صفوفه من الممارسات الانتهازية اليمينية، واليسارية، وعندما يتمكن المنتمون إليه من توظيف قوانين الاشتراكية العلمية في التحليل الملموس للواقع الملموس، وعندما رؤيا واضحة عن الواقع العيني لمجال تحرك اليسار في كل دولة من الدول العربية، ودول باقي بلدان المسلمين، فإنه، حينذاك، يستطيع أن يقوم بالمهمات الموكولة إليه، والتي تتمثل في:
1) جعل البشرية تقر، ودون نقاش يذكر، وعلى مدى البلاد العربية، وباقي بلدان المسلمين، كامتداد لما يحصل في العالم، أن الخروج من الأزمات الحادة: الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، لا يتم إلا بتحقيق الاشتراكية، باعتبارها حلا للمعضلات الكبرى، وعلى جميع المستويات، وفي جميع المجالات، لأن تحقيق الاشتراكية في مجتمع معين، لا يعني إلا شيئا واحدا، يتمثل في القضاء على الاستعباد، والاستبداد، والاستغلال عن طريق التحرير الشامل للإنسانية، في إطار مجتمع تحترم في إطاره الممارسة الديمقراطية، بمضامينها الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، نظرا للعلاقة الجدلية القائمة بين تحقيق الحرية، وتحقيق الديمقراطية، وتحقيق الاشتراكية.
ذلك أن الأزمات الحادة القائمة في العالم، والتي تزداد استفحالا في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، يقتضي، من اليسار، العمل المتواصل من أجل إنضاج الشروط الضرورية لإعداد الجماهير للاقتناع بالحل الاشتراكي المؤدي إلى تجاوز تلك الأزمات، ذلك الاقتناع الذي يترتب عنه الانخراط في النضال من أجل ذلك، وبقيادة اليسار الحقيقي، الذي حددنا مفهومه في الفقرات السابقة، لأن عدم اقتناع الجماهير بالحل الاشتراكي، سيجعل العمل من اجل تحقيقه مهمة صعبة، قد تقود اليسار إلى الباب المغلق، ولأجل إعداد الجماهير للاقتناع بالحل الاشتراكي، يجب على اليسار:
ا ـ أن يتسم بالوضوح الأيديولوجي حتى يستطيع التأثير في الجماهير المعنية وحتى يكون قادرا على إشاعة إيديولوجيته في صفوفها وحتى تصير تلك الإيديولوجية قنطرة العبور الى الاقتناع الجماهيري بالاشتراكية العلمية والى طلب معرفة مختلف التجارب الاشتراكية من اجل الاستفادة منها لصالح العمل المستمر في أفق تحقيق الاشتراكية.
ب ـ أن يصير تنظيم اليسار محكما، ومنسجما مع اقتناعه الإيديولوجي، سعيا إلى أن يصير قويا، وقادرا على الفعل في صفوف الجماهير المعنية؛ لأنه بدون إحكام التنظيم وفق الأنظمة اليسارية المقررة، لا يستطيع اليسار القيام بالفعل في الواقع كما يجب، ولا يستطيع أن يؤثر في الجماهير الشعبية.
ج ـ أن يكون برنامج اليسار السياسي معبرا عن طموحات اليسار، وعن طموحات الجماهير الشعبية في نفس الوقت، لأنه بدون برنامج سياسي، من هذا النوع، لا تقوم علاقة مع الجماهير الشعبية، ولا يرتبط اليسار بهذه الجماهير، ولا يجعلها تنخرط في النضال من أجل تحقيق الأهداف المحددة في البرنامج السياسي اليساري.
د ـ أن يعد تنظيمات يسارية / جماهيرية، تصير معبرا للارتباط بالجماهير، وبقطاعاتها المختلفة، كما هو الشأن بالنسبة للشباب، والمرأة، والعمال، والمهنيين، والفلاحين، والتجار الصغار، والحرفيين، والأطفال، وغيرهم، ممن يجب الارتباط بهم، بواسطة المنظمات الحزبية / الجماهيرية، التي بدونها يكون ارتباط اليسار الواضح بالجماهير ضعيفا أو منعدما.
ه ـ توجيه مناضلي اليسار إلى العمل في المنظمات الجماهيرية، من أجل الارتباط بأوسع الجماهير، من خلال العمل في النقابات الإقطاعية، والمركزية، وفي الجمعيات الحقوقية، والثقافية، والتربوية، حتى يصير فعل مناضلي اليسار محققا لارتباط اليسار بالجماهير الشعبية الكادحة بالخصوص. وعدم توجيه مناضلي اليسار، لا يمكن أن يؤدي إلا إلى انحسار اليسار، وضعف، أو انعدام ارتباطه بالجماهير المذكورة.
واليسار عندما يحرص على تمثل خصائصه المميزة له، ينتقل من وضعية الضعف إلى وضعية القوة، ويستطيع أن يفرض اقتناع الجماهير الشعبية بالحل الاشتراكي، بدل انحشارها وراء التوجهات المؤدلجة للدين الإسلامي، التي تقوم بأكبر ممارسة تضليلية في تاريخ البشرية، لصالح حماية النظام الرأسمالي العالمي من الخلف، ولصالح قيام الأنظمة الرأسمالية التبعية في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، وحماية تلك الأنظمة، أو العمل على قيام أنظمة استبدادية أكثر تخلفا مكانها.
2) قيادة اليسار للنضال الديمقراطي، وبالمضامين الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، وعلى جميع الواجهات، انطلاقا من برنامج محدد، يهدف إلى إيجاد دساتير ديمقراطية في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، تضمن سيادة الشعوب على نفسها، وإجراء انتخابات حرة، ونزيهة، انطلاقا من قوانين تضمن وضع حد للتلاعب بإرادة الشعوب، من أجل إيجاد مؤسسات تمثيلية حقيقة، تفرز حكومات مسئولة أمامها، تعمل على تنفيذ البرامج التي تكون في خدمة مصالح الشعوب في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، تجسيدا لحق كل شعب في تقرير مصيره الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والمدني، والسياسي.
3) سيادة العمل الفكري التنويري، الذي يهدف إلى جعل الجماهير الشعبية الكادحة تدرك خطورة التعاطي مع الفكر الظلامي في مستوياته المختلفة، الذي يحرف الفهم الصحيح للدين بصفة عامة، وللدين الإسلامي بصفة خاصة، عن طريق تشريح منطلقات ذلك الفكر، ومنهجه، وأهدافه، والتصدي لأدلجة الدين، من أجل إدخال الشعوب في دهاليز الظلام الإرهابي، الذي يسعى إلى تكريس الاستبداد القائم، أو العمل على فرض استبداد بديل، من أجل جعل الجماهير الشعبية تمتلك القدرة على التصدي للفكر الظلامي، وللممارسة المترتبة عنه، في المجالات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، والعمل على استئصال هذا الفكر الظلامي من الواقع، حتى تزول السدود التي يقيمها أمام إمكانية تقدم، وتطور الشعوب في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين.
4) مقاومة اعتماد المرجعية الدينية من قبل الأنظمة الاستبدادية القائمة في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، عن طريق اعتبار الدين بصفة عامة، والدين الإسلامي بصفة خاصة لله، ولا يحق لأي كان أن يحتكر الوصاية عليه، أو الكلام باسمه، والنضال في أفق فصل الدين عن الدولة، لإفساح المجال أمام قيام الدولة المدنية، التي يقيمها البشر الذين يعيشون ضمن حدود معينة، والذين يقررون مصيرهم بأنفسهم، باعتبار تلك الدولة ديمقراطية، ودولة الحق والقانون، انطلاقا من الدستور الديمقراطي، الذي يعتبر المرجعية الرئيسية لقيام تلك الدولة، التي تضمن تمتع جميع الناس، بجميع الحقوق، في كل بلد من البلاد العربية، ومن باقي بلدان المسلمين، وبمقاومة اعتماد المرجعية الدينية من قبل الأنظمة الاستبدادية القائمة في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، يكون اليسار قد دخل في صراع إيديولوجي مع تلك الأنظمة، ودفع الجماهير المعنية إلى الانخراط في ذلك الصراع، الهادف إلى إزالة الأسباب التي تقف وراء مصادرة الحقوق الإنسانية باسم الدين، وعلى جميع المستويات: الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، ومن أجل أن يتحرر الناس من دينية الدولة الاستبدادية، التي لا تخدم في العمق إلا مصالح الطبقة الحاكمة، ضدا على مصالح الشعب في كل بلد من البلاد المذكورة.
5) قيادة اليسار للنضال الحقوقي، انطلاقا من المواثيق الدولية المتعلقة بالحقوق الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، ومن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومن كافة الاتفاقيات الخاصة، حتى تصير حقوق الإنسان مكفولة لكل المواطنين، عن طريق العمل على ملاءمة القوانين المحلية مع المواثيق الدولية المختلفة، حتى تصير مواثيق حقوق الإنسان معتبرة في الأجرأة اليومية للقوانين المحلية. وقيادة هذا النوع من النضال، يقف وراء نشر الوعي الحقوقي في صفوف مختلف الفئات المتضررة من الممارسة اليومية للمسئولين عن الانتهاكات الجسيمة في كل بلد من البلاد العربية، ومن باقي بلدان المسلمين، لأن نشر الوعي الحقوقي، يعتبر هدفا، ووسيلة في نفس الوقت، ويمكن الأفراد، والجماعات، من امتلاك الوعي بحقوقهم الفردية، والجماعية، كما هي في المواثيق الدولية. وعلى أساس ذلك الامتلاك يجعلهم ينخرطون في النضال اليومي، وبصفة تلقائية، من أجل احترام حقوقهم المختلفة. وقيادة اليسار للنضال الحقوقي، يعتبر مسالة أساسية، سواء تعلق الأمر بالنضال المباشر، أو بالنضال من خلال المنظمات الجماهيرية المعنية بالنضال الحقوقي في مستوياته العامة، والخاصة، لأنه بذلك النضال، يستطيع اليسار أن يرتبط بجميع الفئات المستهدفة بحقوق الإنسان.
وقيام اليسار بانجاز المهام المشار إليها، يلعب دور كبيرا في إقناع الشعوب في البلاد العربية بضرورة العمل على قيام الدولة المدنية، بدل الانصياع للدولة المستبدة، التي تعتبر نفسها دينية، وبضرورة العمل على صيرورة الدولة المدنية دولة ديمقراطية علمانية، تعمل على خدمة مصالح الأفراد، والجماعات، وعلى حماية تلك المصالح، وهو ما يعطي لليسار أهمية خاصة.
من موقع الحوار المتمدن