في البداية، لا بد أن أتوجه بالشكر العظيم إلى منبر الحوار المتمدن، الذي يطرح محاور تستدعي التحفيز المعرفي، وتحرض على العمل على سبر أغوارها، حتى تصير واضحة في أذهان المتتبعين، الذين تنتقل عبرهم إلى وجدان الجماهير، من أجل أن تتحول إلى واقع قائم.
وفي بداية معالجة هذه المحاور، نجد المحور المرتكز على طرح السؤال:
ـ ما هي المهمات الأساسية التي تواجه قوى اليسار، والديمقراطية، في الشرق الأوسط في المرحلة الراهنة؟
والذي يمكن اختصاره في موضوع:
“المرحلة الراهنة، ومهمات قوى اليسار”
وموضوع كهذا يقتضي منا عرض:
1) سمات المرحلة الراهنة.
2) التحديات المرحلية، والإستراتيجية، التي تواجه قوى اليسار.
3) ما هي مهمات اليسار المبنية على أساس تلك التحديات.
4) الخطوات المطلوب إنجازها قبل الشروع في إنجاز المهمات المطروحة.
سمات المرحلة الراهنة؟
والمرحلة الراهنة، كما يمكن أن يرصد ذلك أي متتبع، تتميز بمجموعة من السمات التي تعلن عن نفسها دونما حاجة إلى بذل مجهود فكري مضن. وهذه السمات تتمثل في:
1) الهيمنة الرأسمالية / الهمجية العالمية على المستوى العالمي، مما يجعل الحيف الاقتصادي يستهدف الطبقة الوسطى، التي صارت تندحر في اتجاه الانسحاق، والالتحاق بالطبقات الاجتماعية المسحوقة.
2) هيمنة عولمة الاقتصاد الرأسمالي تحت يافطة عولمة اقتصاد السوق، الذي صار يعتمد كسلاح لمهاجمة كل أشكال الملكية العامة، التي أريد لها أن تسمى ب “ملكية الدولة”، بما في ذلك تلك التي لها علاقة بالخدمات الاجتماعية المجانية، كالمدارس، والمستشفيات، وغيرها، من أجل تقوية الآليات التي تعتمد للهجوم على القوت اليومي للجماهير الشعبية الكادحة، وتجميع الثروات الهائلة في أيدي قلة قليلة من البورجوازيين الكبار، الذين يتحكمون في الشركات العابرة للقارات.
3) تحكم الولايات المتحدة في القرار السياسي العالمي، عن طريق استعمال القوة، ضد كل من لا يسير وراءها، مما جعل الكلمة الأولى لها على جميع المستويات: الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية. ذلك أن البورجوازية الكبرى المتحكمة اقتصاديا في الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى المستوى العالمي، تعمل على تكريس نهب ثروات العالم، وفي مقدمتها الثروات النفطية، التي يسمونها بالذهب الأسود، حتى وإن أدي الأمر إلى القضاء على الأنظمة المعارضة لسياستها، وإيجاد أنظمة موالية لها، كما حصل في أفغانستان، وفي العراق، وكما يمكن أن يحصل في أي نقطة من العالم، وخاصة في إيران.
4) الارتفاع المهول لأسعار النفط، الذي تجاوز كل الحدود، بسبب احتكار الشركات الأمريكية العابرة للقارات لتوزيعه على المستوى العالمي، مما أدى إلى ارتفاع جميع المنتوجات الاستهلاكية المختلفة، التي لها علاقة باستهلاك المشتقات النفطية، مما يلحق أضرار كبيرة بالقدرة الشرائية للجماهير الشعبية الكادحة.
5) التراجع المهول للحركة النقابية التي لم تعد قادرة على تأطير العمال، وباقي الأجراء، من أجل تحقيق مطالبهم المادية، والمعنوية، مما يؤدي إلى المزيد من الانقسامات التي صارت تعاني منها هذه الحركة.
6) تراجع دور الجمعيات الحقوقية، والثقافية، والتربوية، أمام الازدياد المخيف لما صار يسمى بالجمعيات التنموية، التي تساهم في إفساد الحياة الجمعوية، وخلق المزيد من الانتهازيين.
7) تراجع الحركة السياسية المستقلة عن الأنظمة اللا ديمقراطية، واللا شعبية، في الدول المتقدمة، والمتخلفة على السواء، نظرا لإفساد الحياة السياسية التي صار يتحكم فيها لوبي امتلاك الثروات الهائلة، وخاصة في البلدان الموسومة بالتخلف.
8) انحسار دور ما تبقى من الدول الاشتراكية، نظرا للحصار الاقتصادي، والإعلامي، والثقافي، والسياسي المضروب حولها، بهدف إرغامها على التخلي عن الأخذ بالنظام الاشتراكي، كما حصل مع المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي السابق.
9) تراجع دور الأحزاب الديمقراطية، أمام عودة الدول إلى الاستبداد، في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الدول التي تدعي رعاية الديمقراطية، وتطورها، وتطويرها، باسم محاربة الإرهاب، وأوجدت قوانين خاصة بإعادة الاعتبار إلى الاستبداد صارت تسمى بقوانين الإرهاب، التي تم تعميمها على جميع الدول.
10) تراجع دور اليسار، وتنكر العديد من مكوناته السابقة للأسس التي قامت عليها الحركة اليسارية في الأصل، مما جعل ما تبقى منه ضعيفا، ومحاصرا، داخل دهاليز الوثوقيات، التي كانت، ولا زالت تحكم مساره، والتي تحول دون ارتباطه بالجماهير الشعبية الكادحة، وطليعتها الطبقة العاملة.
11) توسع الحركات الظلامية / الإرهابية، وانتشارها في جميع أنحاء العالم، وفي جميع الديانات الكبرى، وخاصة في صفوف المؤمنين بالدين الإسلامي، وسعي هذه الحركات إلى تأبيد الاستبداد القائم، أو العمل على فرض استبداد بديل، عن طريق اللجوء إلى القيام بالعمليات الإرهابية في هذا البلد، أو ذاك، وعلى المستوى العالمي.
12) غياب التكافؤ في الإنتاج، والاستهلاك، وفي التمتع بكافة الحقوق، وفي التطور الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والمدني، والسياسي بين الدول، وبين الطبقات، وبين الجماعات، وبين الأفراد، وفي إطار الدولة الواحدة، بسبب التفاوت بين الدول، وبين الطبقات، وبين الجماعات، وبين الأفراد.
13) سيادة الإعلام الرأسمالي التبعي، الإقطاعي، الظلامي المتخلف، أمام غياب الإعلام الجاد، والتقدمي، الذي قد يقف وراء إيصال وعي معين، ومحدد، إلى الجماهير الشعبية الكادحة.
وهذه السمات، وغيرها مما لم نذكر، هي التي تجعل ميزان القوى في المرحلة الراهنة، تميل لصالح الرأسمالي العالمي، ولصالح تكريس الانتهاكات الجسيمة، ولصالح الطبقات المستفيدة من الاستغلال، ولصالح الشركات العابرة للقارات، ضدا على مصالح الجماهير الشعبية الكادحة، التي لم تعد قادرة على الحصول على قوتها اليومي، نظرا لأشكال الحرمان التي تعاني منها.
المرحلة الراهنة، ومهمات قوى اليسار، والديمقراطية…..2
التحديات المرحلية والإستراتيجية التي تواجه قوى اليسار:
وبوقوفنا على السمات العامة، التي تطبع المرحلة الراهنة، يمكن أن نسجل أن تلك السمات تساعد على الوقوف على أهم التحديات التي تقف وراء ضعف الفعل في الواقع، من قبل الجهات العاملة على التأثير فيه، من أجل تغييره بنسبة، أو بأخرى، وخاصة عندما يتعلق الأمر بقوى اليسار التي يفترض فيها قيادة عملية التغيير تلك، التي تتخذ أبعادا ديمقراطية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية، وسياسية.
ومن أهم هذه التحديات نجد:
1) غياب التحديد الصحيح، والعلمي، لمفهوم اليسار، مما جعل العديد من الجهات المتواجدة في الساحة، وخارج الحكم، أو في الحكم، محسوبة على اليسار، مع أنها في ممارستها الإيديولوجية، والسياسية، والتنظيمية، لا تخدم مصلحة الجماهير الشعبية، وطليعتها الطبقة العاملة، بقدر ما تخدم مصالح الجهات المستفيدة من الاستغلال، وخاصة، الطبقات الحاكمة، ومن يسبح في فلكها من التحالف البورجوازي الإقطاعي، والبورجوازية الصغرى، واليمين المتطرف، وكل من يدعم تكريس الاستغلال، ويحارب إمكانية الوعي بخطورته.
2) وانطلاقا من غياب التحديد الصحيح والعلمي لليسار نجد أنفسنا أمام طرح السؤال:
ما هو المفهوم الصحيح، والعلمي لليسار؟
إن الكثير من المحللين، والمتتبعين، يتعامل مع كل من تبنى أفكارا توحي باليسارية، على انه يسار، وهذا التعامل الفضفاض، غير المحدد، وغير المبني على مقاييس معينة، هو الذي رسخ، في الواقع، تنظيمات يسارية متجانسة، أو متقاربة، أو متناقضة في معظم الأحيان، وهو ما ينعكس على الجماهير الشعبية الكادحة، التي تصير، بسبب ذلك، مفتقدة للتوجه الصحيح، الذي تحتكم إليه في نضالاتها المطلبية: الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، الهادفة إلى تغيير واقعها المادي، والمعنوي.
وحتى نقف على حقيقة اليسار الذي يواجه التحديات القائمة في الواقع، لا بد من القول:
إن اليسار هو الذي يأتي كإفراز لواقع يزخر بالصراع الطبقي في مستوياته المختلفة.
وإن هذا الإفراز يشكل نقيضا رئيسيا للطبقة الحاكمة.
إنه يعتبر في ظل التشكيلة الرأسمالية التبعية، والرأسمالية ممثلا، ومدافعا، وقائدا لنضالات الجماهير الشعبية الكادحة، وطليعتها الطبقة العاملة.
إنه يقتنع بالاشتراكية العلمية كوسيلة، وكهدف.
إنه يقيم تصوره لما يجب أن يكون عليه الواقع على أساس التحليل الملموس، للواقع الملموس.
إنه يسعى إلى تغيير الواقع تغييرا جذريا، حتى يصير في خدمة الكادحين، وطليعتهم الطبقة العاملة.
إنه يسعى إلى تحقيق الحرية، والديمقراطية، والاشتراكية، باعتبارها أهدافا ترتبط فيما بينها ارتباطا جدليا.
وفي أفق ذلك يحرص على بناء الدولة الديمقراطية، التي هي، في نفس الوقت، دولة الحق والقانون، ودولة علمانية، يتجسد في إطارها فصل الدين عن الدولة.
ويسار من هذا النوع، هو الذي يمتلك القدرة على مواجهة التحديات القائمة في الواقع، وبالطرق العلمية الدقيقة، وعلى أساس برنامج يستجيب لطموحات الجماهير الشعبية الكادحة.
والتحديات القائمة في المرحلة الراهنة، تتمثل في:
1) ترسيخ القول بفشل الاشتراكية، وكأن نضالات اليسار غير ذات جدوى، مما جعل العديد من الحركات التي كانت محسوبة على اليسار تغير جلدها، لتقف إلى جانب الأنظمة الحاكمة في بلدانها، ومن اجل أن تصير جزءا لا يتجزأ من الطبقات الحاكمة، وهذا التحدي يفرض على اليسار الحقيقي العمل على إعادة اعتبار إلى الاشتراكية، من منطلق أنها لم تفشل، لأن الذي فشل فعلا هو التجارب التي كانت محسوبة على الاشتراكية. أما الاشتراكية، فتبقى حلما للكادحين.
2) حرمان الجماهير الشعبية الكادحة من الممارسة الديمقراطية الحقيقية، في مقابل اعتماد ديمقراطية الواجهة، للتغطية على تكريس الاستعباد، والاستبداد، والاستغلال. فمعظم الأنظمة القائمة، إن لم تقل كلها، في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، ودول بلدان العالم الثالث، هي أنظمة ذات طبيعة رأسمالية تبعية، تعتمد اختيارات لا ديمقراطية، ولا شعبية، تسعى إلى تكريس الاستبداد بالشعوب، من أجل الاستئثار بثرواتها، وتسخير تلك الثروات، لخدمة مصالح الرأسمالي المحلي، والعالمي، من خلال خدمة الدين الخارجي، ومن خلال تمكين الشركات العابرة للقارات من الاستئثار بالثروات الوطنية في كل بلد، ومن خلال خصخصة القطاع العام، الذي يباع غالبا لهذه الشركات، وإلى الرأسماليين المرتبطين بها. وتحدي غياب الديمقراطية، يفرض على اليسار العمل الدءوب على تحقيقها من خلال:
ا ـ العمل على إيجاد دستور ديمقراطي، يضمن سيادة الشعب على نفسه، مما يمكنه من تقرير مصيره الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والمدني، والسياسي، انطلاقا من اختيارات ديمقراطية، وشعبية.
ب ـ العمل على إيجاد قوانين تضمن حرية الانتخابات، ونزاهتها، وتغلق الطريق أمام كل أشكال التزوير الممكنة، التي تساعد الحكام على مصادرة حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها.
ج ـ إجراء انتخابات حرة، ونزيهة، تتسم بالشفافية الكاملة، وانطلاقا من القوانين المشار إليها، من أجل إيجاد مؤسسات تمثيلية: محلية، وإقليمية، وجهوية، ووطنية، تقوم بمهمة التشريع، وبإفراز الأجهزة، التي تقوم بمهمة التنفيذ.
د ـ إيجاد حكومة من أغلبية البرلمان، تكون مسئولة أمامه، وتقوم بتنفيذ برنامج الأغلبية، المصادق عليها في المجالات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية.
ه ـ إيجاد قضاء مستقل دستوريا، وواقعيا، توكل إليه مهمة تطبق القوانين المصادق عليها في المجالس التشريعية، والتي تستهدف تنظيم الحياة العامة، والخاصة، وتضمن سلامة الأشخاص، والممتلكات، والحفاظ على الأموال العامة.
و ـ ضمان تحقيق الحرية، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، في صفوف أفراد كل شعب من شعوب البلاد العربية، وباقي بلدان المسلمين، أنى كان لونهم، أو جنسهم، أو معتقداتهم، أو لغتهم؛ لأنه بدون حرية، وبدون ديمقراطية، وبدون عدالة اجتماعية، يصير الشعب مستهدفا بالاستبعاد، والاستبداد، والاستغلال، مما يؤدي إلى حدة الفوارق الطبقية، والى تكريس كل أشكال القمع الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي، وإلى جعل الناس لا يستطيعون التعبير عن رأيهم فيما يجري، ولا يمتلكون القدرة على تقرير مصيرهم بأنفسهم.
ز ـ تمتيع جميع الناس، بجميع الحقوق المنصوص عليها في المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان: الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، من أجل ضمان إنسانية الإنسان، بدل الحرمان من كافة الحقوق، كما هو حاصل في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين.
والتزام اليسار بهذه الخطوات المشار إليها، هو الذي يضمن لليسار الارتباط بالجماهير الشعبية المعنية بتحقيق أهداف النضال الديمقراطي، الذي يقوده اليسار.
3) هيمنة الفكر، والممارسة الظلاميين، على وجدان، ومسلكية الجماهير الشعبية الكادحة: الفردية، والجماعية، بسبب لجوء اليمين المتطرف إلى أدلجة الدين، وإلى توظيف تلك الأدلجة، لتكريس الاستبداد القائم، أو العمل على فرض استبداد بديل، مما جعل الجماهير الشعبية تتوهم أن ذلك الاستبداد القائم، أو الاستبداد البديل، هو الدين الإسلامي، الذي يجب الخضوع له أملا في الثواب، ورغبة في الفوز بالجنة، أو تتوهم أن الانخراط في العمل من أجل فرض استبداد بديل، هو عينه “الجهاد”، المقرون بالثواب في الدنيا، والآخرة. وسواء تعلق الأمر بتكريس الاستبداد القائم، أو العمل على فرض استبداد بديل، على أساس أدلجة الدين، فإن الاستبداد، ومهما كان، لا يمكن أن يؤدي إلا إلى حرمان الجماهير الشعبية الكادحة من حقها في التعبير عن رأيها، وفي تقرير مصيرها.
وهذه الهيمنة الظلامية، ذات الطابع الإيديولوجي، تقتضي من اليسار العمل الدءوب، والمتواصل، الفكري، والعلمي، والإيديولوجي، والسياسي، لتفكيك الفكر الظلامي، ولتشريح الممارسة الظلامية القائمة على أساس ذلك الفكر، ولتفنيد الأطروحات الإيديولوجية الظلامية القائمة على أساس ادلجة الدين، حتى تمتلك الجماهير الشعبية المضللة القدرة على مواجهة الفكر الظلامي، وعلى نبذ الممارسة الظلامية، وعلى امتلاك الفهم الصحيح للدين، الذي يعتبر سلاحا أساسيا في مواجهة أدلجة الدين، وفي محاربة الاستبداد القائم على أساس تلك الأدلجة.
4) اعتماد الأنظمة القائمة في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، على الشرعية الدينية، مما جعل هذه الأنظمة مفرخة للظلاميين، وللفكر الظلامي، ولأدلجة الدين الإسلامي، التي تقف وراء قيام تطابق تام بين الدين، والدولة، الأمر الذي يجعل الدول في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، دولا دينية، تحرص كل الحرص على محاصرة كل فكر علماني، يسعى إلى إشاعة ضرورة طرح مطلب فصل الدين عن الدولة، حتى يصير ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، كما يقولون.
واعتماد الدول في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، على الشرعية الدينية، يجعل مهمة عمل اليسار على تحقيق الدولة الديمقراطية، باعتبارها دولة الحق والقانون، ودولة علمانية في نفس الوقت، مهمة صعبة. ولذلك نجد أن عمل اليسار على تفنيد الشرعية الدينية للدول القائمة في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، من خلال تشريح الاختيارات اللا ديمقراطية، واللا شعبية، التي تخدم مصالح الطبقات المستفيدة من الاستغلال الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والمدني، والسياسي، يعتبر من أولى الأولويات، من أجل جعل الجماهير التي تعاني من الاستغلال المادي، والمعنوي، تدرك أن ما يمارس عليها ليس قدرا، بقدر ما هو من فعل البشر المشكل للطبقات المستفيدة من الاستغلال، في أفق علمنة علاقات الإنتاج، التي تصير مدخلا لعلمنة الحياة الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، التي تعتبر شرطا لعلمنة الدولة في كل بلد من البلدان العربية، والإسلامية، من أجل وضع حد لسعي الدول القائمة في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، إلى اكتساب الشرعية الدينية.
5) حرمان المواطنين في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، من الحقوق الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، كما هي في المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، بسبب عدم ملاءمة القوانين، والقرارات، والمراسيم المحلية، والوطنية، مع المواثيق الدولية، مما يجعلها مصدر تكريس، وممارسة مختلف الخروقات الجسيمة لحقوق الإنسان، القائمة في الواقع الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والمدني، والسياسي، على أساس تلك القوانين، والقرارات، والمراسيم المستعملة في هذه البلاد. وهذا الحرمان الممارس في الحياة اليومية، وفي جميع المجالات، يفرض قيام اليسار بالعمل على جعل الجماهير، ومن خلال الإطارات الحقوقية بالخصوص، تنخرط في النضال من أجل ملاءمة القوانين المحلية مع المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان؛ لأن تلك الملاءمة في حد ذاتها، تساهم في تفكيك اعتماد الدول على الشرعية الدينية، خاصة، وأن الناس يدركون، إلى حد كبير، بسبب تلك الملاءمة، أن ما قد يتمتعون به من حقوق، ليس منة من أحد، بقدر ما هو حق إنساني، تقتضي التمتع به إنسانية الإنسان.
6) اعتبار المرجعية الدينية في التشريع، وفي اتخاذ القرارات، وفي إصدار المراسيم، وسيلة لتكريس الاستبداد باسم الدين، مما يؤدي إلى إلحاق حيف كبير بالجماهير الشعبية الكادحة، المستهدفة بالتشريح، وباتخاذ القرارات، وبإصدار المراسيم. ولمناهضة الاستبداد الذي يتخذ بعدا دينيا، يطرح على اليسار فضح الخلفيات الإيديولوجية، والسياسية، القائمة وراء اعتماد الدين مصدرا للتشريع، مما يحول دون استحضار التحولات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، التي تقتضي عدم اعتبار تلك المرجعية، نظرا لارتباطها بشروط لم تعد قائمة. وفضح الخلفيات المذكورة يقتضى المعرفة العلمية الدقيقة بالواقع، في أبعاده المختلفة، وبطبيعة الصراع، وبمستوياته المختلفة، وبميزان القوى، وبالشروط المتحكمة فيها، لأنه بدون تلك المعرفة، التي يبنى عليها برنامج اليسار، يبقى اليسار عاجزا عن الفعل في اتجاه وضع حد لاعتماد المرجعية الدينية.
وهذه التحديات التي لا يمكن الاستهانة بها، هي التي وقفت، وتقف، وستقف أمام ضعف اليسار، أو غيابه جزئيا، أو كليا، عن الفعل في الساحة الجماهيرية، على جميع المستويات: الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، وما دامت كذلك، فوضعها في الاعتبار يبقى واردا في برنامج اليسار. وإلا، فان الأمر سيبقى على ما هو عليه، وستزداد التحديات المذكورة استفحالا.
من موقع الحوار المتمدن