كما هو معروف يعتبر سعر صرف العملة أهم أدوات السياسة النقدية التي تحرص حكومات الدول وسلطاتها النقدية متمثلة في البنوك المركزية، على إدارة دفتها بعناية شديدة نظراً لاتصالها الوثيق بضبط إيقاع الحركة الاقتصادية والتحكم في مؤشرات أدائها القياسية توسعاً وانكماشاً.
وسعر الصرف المناسب (وليس المثالي) هـو السعـر الـذي يكـون فيه سعره الحقيقي (Real Exchange Rate) غير بعيد عن سعره الإسمي (Nominal Exchange Rate).
وإلى ذلك ليس بالضرورة أن يكـون اعتمـاد سياسـة سعـر صرف ‘مكشوف’ - إن جاز التعبير - أي الذي لا يحظى برعاية ودعم السلطات النقدية المسؤولة (البنك المركزي عادة) بغية إضعافه، أي اعتماد سياسة سعر صرف منخفض للعملة الوطنية - ليس سياسة سيئة بالمطلق إلى حين استنفاذها لغرضها، مثلما أنه ليس بالضرورة أن تكون جيدة سياسة اعتماد سعر صرف مرتفع للعملة الوطنية.
تأسيساً على ذلك فان تراجع سعر صرف العملات الخليجية، على سبيل المثال، أمام العملات العالمية ارتباطاً بانخفاض سعر صرف الدولار، أمامها، كان سيكون في صالح الدول الخليجية لو أنها كانت تملك سلة واسعة من المنتجات الموجهة للتصدير.
ولكن المعروف أن دول التعاون هي دول مستورد صاف (Net importer) لكافة احتياجاتها السلعية الاستهلاكية والرأسمالية على السواء، ولذلك فأن ضعف العملة هنا له انعكاسات سلبية خطيرة على القوة الشرائية لمواطني دول المجلس الناجمة عن تراجع القوة الشرائية لعملاتها الوطنية (PPP).
نقول على مواطني دول المجلس لأن الحكومات الخليجية تعوض نزف النقاط الذي تتعرض له جراء تراجع سعر صرف الدولار المقومة به صفقات بيع النفط عن طريق ارتفاع سعر البرميل. بينما لا تتوفر للمواطن الخليجي مثل هذه الآلية الموازية لوقف نزف قوته الشرائية (جراء الارتفاع المتواتر في أسعار السلع والخدمات) وهي هنا كما يفترض دالة الأجور. والحال أن عدد البلدان النامية التي تعاني اليوم من تذبذبات أسعار الصرف للعملات العالمية لاسيما تلك المرتبطة بالدولار، يزداد يوماً بعد يوم.
مثال ذلك الصين التي اختارت منذ سنوات ربط عملتها بالدولار الأمريكي باعتباره العملة التي تمثل أقوى اقتصاد وأكبر عملة في العالم، وأكثرها تداولاً واستخداماً كعملة احتياط دولية. حيث أجبرتها سياستها النقدية الهادفة لدعم سياسة التوسع الاقتصادي الحكومية بواسطة التصدير والأخير لسعر صرف متدني (عن قيمته الحقيقية) للعملة الوطنية (اليوان) - أجبرت مصرفها المركزي على التدخل المستمر لشراء الدولار بغية المحافظة على سعر صرف ‘اليوان’ التنافسي.
والحاصل أن ذلك أدى فوائض متراكمة في الميزان التجاري ما اضطر السلطات لملاحقته واستيعابه بالتوسع في العرض النقدي الذي أفضى بدوره إلى زيادة الفائض التجاري على اعتبار ان هذه الإصدارات النقدية للبنك المركزي الصيني ليست لها علاقة بالاحتياجات النقدية للاقتصاد بقدر علاقتها بتوسع الفائض في ميزان مدفوعات البلاد. ولما كان هذا الفائض كبيرا منذ عام 2004 فان البنك المركزي الصيني يصدر نقودا أكثر من حاجة الاقتصاد إليها. وهو ما يقود إلى عدد من اللاتوازنات الداخلية يأتي في مقدمتها النمو الزائد عن الحد للقروض البنكية في ظل عدم متانة النظام المصرفي (بما يُذكر بأزمة النظام المصرفي في اليابان في ثمانينيات القرن الماضي)، وكذلك فيض الاستثمار في الأصول الثابتة. فكان أن تسبب اللاتوازن هذا بصورة مباشرة في مزيد من نمو الإنتاج الصناعي، بما يفيض عن طاقة الامتصاص المحلية (الاستهلاك) ويؤدي إلى تحويل فائض الإنتاج إلى التصدير .. وهذا إلى مراكمة الفائض التجاري.
وقد حاولت الصين على مدى السنوات الثلاث الأخيرة للحد من نموها النقدي الكبير وذلك برفع سعر الفائدة أربع مرات، إلا أن ذلك لم يكن كافياً لكبح عمليات الإقراض. وإلى أن يصل معدل الفائدة إلى مستواه الكابح للاقتراض فإن ذلك سوف يفاقم أزمة الديون المعسرة والمعدومة لدى البنوك التي تعاني منها أصلاً.
هذه هي مشكلة الصين الناتجة عن ربط عملتها بالدولار الأمريكي والتي يعتقد البعض أن حلها يكمن في التخلي عن سياسة التدرج في رفع سعر صرف اليوان والقيام برفع قيمته بنسبة 15٪ دفعة واحدة. ولكن لهذا القرار عواقب وخيمة على الصادرات الصينية وعلى الواردات بصورة أكبر، وعلى تدفق الاستثمارات بصورة أعظم، وفي المحصلة على معدل نمو الاقتصاد.
مثال آخر على ورطة الدول بتنامي قوة عملتها الوطنية إزاء عملات الربط العالمية الرئيسية، تقدمه لنا تايلند التي تتعرض عملتها لضغط صعودي جراء ضعف الدولار الأمريكي والين الياباني انعكس تأثيراً سلبياً على القطاع الخارجي (External Sector) وتحديدا الميزان التجاري بصفة خاصة وميزان المدفوعات بصورة عامة، وتمثل في تراجع الصادرات السلعية والخدماتية وارتفاع قيمة الواردات، ما أدى إلى انخفاض الإيرادات الوطنية وتراجع الإنتاج (من حيث تراجع الطلب على السلع التايلندية بسبب ارتفاع الباهت) وارتفاع نسبة البطالة. وهذا يقود بدوره إلى انخفاض الاستهلاك والانفاق الاستثماري نتيجة لتراجع الدخل الأسري وانخفاض ربحية قطاع الأعمال بما يزيد الضغط على الإيرادات العامة والإنتاج الوطني والاستهلاك ومؤشر البطالة.
وضع العملات الخليجية اليوم (مع استثناء الدينار الكويتي) يشابه تقريباً وضع اليوان الصيني المربوط - بمرونة - بالدولار، من حيث تداوله بأقل من قيمته الحقيقية أمام الدولار المتراجع تباعاص.
إلا أن الفارق أن الصين تتعمد حصول مثل هذا الفارق بين سعر الصرف الرسمي المتداول وبين سعر الصرف الحقيقي لليوان من أجل المحافظة على تنافسيتها التجارية باعتبارها دولة مصدرة رئيسية للسلع الرأسمالية والاستهلاكية إلى الأسواق العالمية. بينما لا تستفيد بلدان الخليج العربية كثيراً من انخفاض سعر صرف عملاتها لأنها ليسن دول مصدرة للسلع الاستهلاكية والرأسمالي.
صحيفة الوطن
25 مايو 2008