المنشور

الــــردح النيـــــــابي‮..!‬

نريد أن نفترض ما‮ ‬يفرض ويفترض من أصحاب السعادة النواب في‮ ‬فترة عطلتهم الحالية بعد أن انفض دور الانعقاد الثاني‮ ‬للمجلس النيابي،‮ ‬أن‮ ‬يحسنوا التوقيت والأسلوب في‮ ‬وضع ادائهم بالمجلس وخارجه محل تقييم لما اعترى اداءهم من فشل وأخطاء وزلات بعد أن كادوا أن‮ ‬يضعونا‮ – ‬أم وضعونا وانتهينا‮ – ‬في‮ ‬حلقة مفرغة من شتى أنواع المنغصات التي‮ ‬حفل بها المشهد النيابي،‮ ‬وهي‮ ‬منغصات آذت المشاعر،‮ ‬واستثارت النفوس وبعثت على الدهشة والصدمة في‮ ‬آن واحد،‮ ‬وولدت انزعاجاً‮ ‬انتاب عقل المواطن‮.‬
ما كانت هذه المنغصات بخاصة الأخيرة التي‮ ‬جاءت على خلفية استجوابي‮ ‬الوزيرين عطية الله وبن رجب،‮ ‬وما واكبهما ليستوقف الاهتمام لولا أنهما‮ – ‬بتضافرهما مع عوامل أخرى‮ – ‬تشكل خللاً‮ ‬عميقاً‮ ‬اعترى سير التجربة البرلمانية واداء النواب بعد المنحى الذي‮ ‬اعترى الاستجوابين إلى الدرجة التي‮ ‬استشعرنا بأن ثمة تمادياً‮ ‬في‮ ‬الاستخفاف بالممارسة النيابية السليمة،‮ ‬وباتت التساؤلات التي‮ ‬تتوارد من كل حدب وصوب تعكس قلقاً‮ ‬من نتاج هذا الذي‮ ‬حدث من ردح نيابي‮ ‬غلب عليه الطابع الكاريكاتوري‮ ‬لم‮ ‬يحترم فيه النواب التفويض المعطى لهم من الشعب‮.. ‬والغريب والمفاجىء هو أن سيناريو الفوضى الخلاقة للنواب حيال الاستجوابين وتفريعاتهما وتوابعهما والاشتباك الملتهب والساخن بين هؤلاء وهؤلاء من النواب ومن لف لفهم،‮ ‬قد بلغ‮ ‬مدى لم نجد فيه اكتراثاً‮ ‬بالثمن الفادح الذي‮ ‬تدفعه البحرين الدولة والمجتمع،‮ ‬والتجربة الديمقراطية الوليدة التي‮ ‬لا تتعمق في‮ ‬شتى أبعادها بفضل مواقف وممارسات أصحاب السعادة النواب‮.‬
لقد أفاض النواب في‮ ‬الحديث عن نقائص وعيوب بعضهم البعض،‮ ‬وتمادى بعضهم في‮ ‬المزيد من الاختزال المخل والمتعمد لحقيقة الكثير من الأمور،‮ ‬وبات كل منهم‮ ‬يفسر الحقوق الدستورية ويؤول نصوص المواد القانونية على هواه،‮ ‬وكل همه إدانة وإسقاط هذا الوزير أو ذاك في‮ ‬ظل جنون الارتياب في‮ ‬الآخرين الذي‮ ‬أصاب كثير من النواب،‮ ‬وبدوا وكأنهم في‮ ‬حالة مرض ميؤوس منها تقريباً،‮ ‬وركب هؤلاء النواب الشطط فباتوا‮ ‬ينصبون الكمائن،‮ ‬ويتصرفون بشكل ضاعت فيه الأولويات وتسطحت فيه أبعاد التحديات وأهدرت فيه قيمة الاستجواب،‮ ‬وأجبرنا على خفض سقف طموحنا إزاء الدور الرقابي‮ ‬المأمول للنواب،‮ ‬وكأن النواب لا‮ ‬يعلمون أن الهموم من كل نوع باتت تستولي‮ ‬على المواطن بالقلق والأرق والخوف‮.‬
وتستمر الحلقة المفرغة في‮ ‬دورانها،‮ ‬مهما علت نبرتها وضجيجها،‮ ‬والمشكلة أن ممثلي‮ ‬الشعب باتوا‮ ‬يضيعّون أوقاتهم وأوقاتنا في‮ ‬دفع مجريات الأمور إلى ما‮ ‬يجعل القلوب ملآنة،‮ ‬ويبقي‮ ‬الضجيج صاخباً‮ ‬يتعيش عليه البعض كل‮ ‬يحسب حساباته كما‮ ‬يشاء،‮ ‬أو لغاية في‮ ‬نفس‮ ‬يعقوب،‮ ‬وإلا فما معنى أن‮ ‬يمعن نواب كثر في‮ ‬صب جام‮ ‬غضبهم على نواب كثر آخرين في‮ ‬صورة كاريكاتورية فقط لأنهم لم‮ ‬يقفوا معهم في‮ ‬استهداف وإدانة هذا الوزير أو ذاك،‮ ‬ويتسابقون في‮ ‬ماراثون من التصريحات والبيانات والمؤتمرات الصحفية ليهاجم كل طرف الآخر،‮ ‬بقدر كبير من الخلط والإبهام والتمييع لكثير من المواقف والقضايا والدفوعات،‮ ‬والمواطن تائه وحائر بين هؤلاء الذين‮ ‬يضخمون من الإنجاز ويفتعلون قصص النجاح في‮ ‬مواجهة هؤلاء الذين‮ ‬يرفضون رؤية بصيص الأمل في‮ ‬النجاح والإنجاز‮.‬
بعيداً‮ ‬عن الخوص في‮ ‬التفاصيل،‮ ‬وتجنباً‮ ‬للوقوع في‮ ‬شراك تفاصيل التفاصيل،‮ ‬فإن ثمة حقائق لا بد من التنبه لها‮.‬
الحقيقة الأولى الغائبة في‮ ‬هذا الذي‮ ‬جرى ترتبط بإصرار بعض النواب على احتكار التمثيل الوطني‮ ‬ونكرانه على الآخرين ولكم أن تتصوروا تبعات وتداعيات ذلك وامعنوا جيداً‮ ‬في‮ ‬واقعنا الراهن لتلمسوا ظهور بعض النواب،‮ ‬وكأنهم وحدهم الوطنيون الشرفاء،‮ ‬ووحدهم الأمناء على مصير البلاد ومصالح العباد،‮ ‬أما الحقيقة الثانية فهي‮ ‬الجنوح بالعمل السياسي‮ ‬النيابي‮ ‬إلى الطأفنة بهذا الشكل الفج،‮ ‬بل إن النفس الطائفي‮ ‬كان صريحاً‮ ‬وواضحاً‮ ‬في‮ ‬كلا الاستجوابين ودوافعهما،‮ ‬وردود الفعل حيالهما من منظور‮ “‬واحد منا وواحد منكم‮”‬،‮ ‬وبات هذا النفس واضحاً‮ ‬قبل ذلك في‮ ‬كل موقف،‮ ‬وكل نزاع،‮ ‬وكل تصريح،‮ ‬ووجدنا مواقف اشتبك فيها الطائفي‮ ‬والشخصي‮ ‬على نحو‮ ‬يصعب معه تخليص هذا من خيوط ذاك‮.‬
وبافتراض أن هناك ما‮ ‬ينزه عن هذا أو ذاك،‮ ‬ويعتبر ما‮ ‬يقوم به بعض النواب سياسة لا‮ ‬غير؛ فإن ذلك‮ ‬يظهر في‮ ‬الغالب على صورة قواعد كسور بين نواب موالاة ونواب معارضة،‮ ‬وهذه هي‮ ‬الحقيقة الثالثة التي‮ ‬يغيب فيها الاهتمام الجدي‮ ‬بعقلنة الممارسة النيابية والحد من شخصنة هذه الممارســـــة،‮ ‬وحال دون أن‮ ‬يكون أي‮ ‬طرح من منطلق وطني‮ ‬بحت أكثر عمقاً‮ ‬ووعياً‮ ‬وتأثيراً‮ ‬والتفافاً‮ ‬وأرفع نوعية ومستوى‮.‬
أما الحقيقة الرابعة التي‮ ‬وضحت للعيان،‮ ‬فهي‮ ‬أن صدور النواب قد ضاقت بالديمقراطية في‮ ‬حدودها المتاحة،‮ ‬الأمر الذي‮ ‬سمح لنوابنا بأن‮ ‬يكونوا أسرى فكرة اللحظة،‮ ‬وسياسة اللحظة،‮ ‬والخضوع لقدسية الأنا،‮ ‬وأصبح كثيرون عندما‮ ‬يتكلمون‮ ‬يرتكبون خطايا،‮ ‬وعندما‮ ‬يتصرفون‮ ‬يقعون في‮ ‬المحظور،‮ ‬وفاتهم أن الناس قد‮ ‬يغفرون الخطأ ولا‮ ‬يغفرون الخطيئة‮.‬
وتبقى الحقيقة الخامسة الغائبة والمغيبة أن الاصطفافات الطائفية أفرزت ليس فقط تعطيل النواب لدورهم في‮ ‬المساءلة والمحاسبة السياسية الدستورية تجاه أعمال وتصرفات السلطة التنفيذية،‮ ‬وعجز المجلس النيابي‮ ‬في‮ ‬هذا الشأن،‮ ‬بل وظهر المجلس وكأنه متواطئ أو متحالف مع السلطة التنفيذية على تعطيل وإيقاف هذا الدور وتعميق الخلل في‮ ‬تفعيل آليات ومراقبة هذه السلطة والإدارة التابعة لها عبر تفريغ‮ ‬قيمة الاستجواب من مضمونه وتحريف مساره إلى مهاترات جانبية ومناكفات وفوضى رغبات متناقضة ومصالح متصارعة،‮ ‬وممارسات متوحشة أدت إلى الانحراف بالعمل النيابي،‮ ‬وأصبح كل طرف‮ ‬يتهم الآخر بأنه نزع عنه ورقة التوت الأخيرة،‮ ‬وأنه حام وحارس للفساد،‮ ‬وبإمكاننا العودة إلى موجات التلاسن التي‮ ‬راجت ولا تزال فيما بين النواب وتبادل بعضهم لبعض الاتهامات بالفساد وعقد الصفقات فلربما تتضح الصورة لمن لم‮ ‬يروها واضحة‮.‬
واذا كنا نجمع على استشراء الفساد،‮ ‬وعلى ضرورة المسارعة في‮ ‬اجتثاثه ووقف اجتياحه في‮ ‬المؤسسات والنفوس والضمائر،‮ ‬فإن ما قام به النواب ليس فقط اهدار قيمة أهم أداة نيابية للرقابة والمساءلة وهي‮ ‬الاستجواب،‮ ‬وهو الحق الذي‮ ‬كفله الدستور بقصد بسط الرقابة البرلمانية التي‮ ‬قد تنتهي‮ ‬بطرح الثقة بالوزير المعني‮ ‬بالاستجواب،‮ ‬وإنما في‮ ‬ضوء عبثية هذا الذي‮ ‬جرى‮ ‬يكون الدور الرقابي‮ ‬للمجلس النيابي‮ ‬في‮ ‬خانة التمنيات طالما بات‮ ‬يصعب علينا أن نعوّل على النواب سواء من‮ ‬يوصفون بأنهم تابعون‮ ‬يدارون وفق مشيئات ويتوزعون وفق حسابات في‮ ‬أي‮ ‬دور حقيقي‮ ‬وفاعل ومؤثر في‮ ‬مواجهة الفساد،‮ ‬ولئن كان من نافل القول إن البديهي‮ ‬بوصفه بديهياً‮ ‬أنه إذا استمرت تجليات النواب كل النواب،‮ ‬واستمروا في‮ ‬التعامل كضدين،‮ ‬واستمروا في‮ ‬اختلاق مؤامرات ومتآمرين،‮ ‬وتبادل الاتهامات،‮ ‬والصاق كل قصور بالآخر،‮ ‬واستمروا في‮ ‬عجزهم عن مواجهة الذات بتلك الحقائق وحقائق أخرى كثيرة،‮ ‬فإننا حتماً‮ ‬لن نتمكن من المضي‮ ‬خطوة إلى الأمام،‮ ‬العلة ليست في‮ ‬طرف ما،‮ ‬أو كتلة ما،‮ ‬أو نواب بعينهم،‮ ‬رنها في‮ ‬النواب جميعاً‮ ‬وبالتساوي،‮ ‬وهي‮ ‬علة تزداد تفاقماً‮ ‬كلما ألقيت تبعاتها على الآخر،‮ ‬ورفضه الاعتراف بالآخر،‮ ‬وبقيت النوايا‮ ‬غير صافية ولا بد لنا إذا أردنا الخروج من النفق الذي‮ ‬وضع النواب أنفسهم فيه،‮ ‬ووضعونا معهم،‮ ‬من التوقف لتشخيص الوضع بموضوعية وصراحة،‮ ‬لعلنا نفلح في‮ ‬أن نجعل الاستجواب بل العمل النيابي‮ ‬برمته ملبياً‮ ‬لمقتضيات الصالح العام،‮ ‬وليس محصلة لتوازنات ورغبات أياً‮ ‬كان منطلقها أو دافعها،‮ ‬وإذا استمر الوضع على ما هو عليه سيكون خط الدفاع الأخير للعمل النيابي‮ ‬في‮ ‬خطر محدق‮.‬

صحيفة الايام
23 مايو 2008