نريد أن نفترض ما يفرض ويفترض من أصحاب السعادة النواب في فترة عطلتهم الحالية بعد أن انفض دور الانعقاد الثاني للمجلس النيابي، أن يحسنوا التوقيت والأسلوب في وضع ادائهم بالمجلس وخارجه محل تقييم لما اعترى اداءهم من فشل وأخطاء وزلات بعد أن كادوا أن يضعونا – أم وضعونا وانتهينا – في حلقة مفرغة من شتى أنواع المنغصات التي حفل بها المشهد النيابي، وهي منغصات آذت المشاعر، واستثارت النفوس وبعثت على الدهشة والصدمة في آن واحد، وولدت انزعاجاً انتاب عقل المواطن.
ما كانت هذه المنغصات بخاصة الأخيرة التي جاءت على خلفية استجوابي الوزيرين عطية الله وبن رجب، وما واكبهما ليستوقف الاهتمام لولا أنهما – بتضافرهما مع عوامل أخرى – تشكل خللاً عميقاً اعترى سير التجربة البرلمانية واداء النواب بعد المنحى الذي اعترى الاستجوابين إلى الدرجة التي استشعرنا بأن ثمة تمادياً في الاستخفاف بالممارسة النيابية السليمة، وباتت التساؤلات التي تتوارد من كل حدب وصوب تعكس قلقاً من نتاج هذا الذي حدث من ردح نيابي غلب عليه الطابع الكاريكاتوري لم يحترم فيه النواب التفويض المعطى لهم من الشعب.. والغريب والمفاجىء هو أن سيناريو الفوضى الخلاقة للنواب حيال الاستجوابين وتفريعاتهما وتوابعهما والاشتباك الملتهب والساخن بين هؤلاء وهؤلاء من النواب ومن لف لفهم، قد بلغ مدى لم نجد فيه اكتراثاً بالثمن الفادح الذي تدفعه البحرين الدولة والمجتمع، والتجربة الديمقراطية الوليدة التي لا تتعمق في شتى أبعادها بفضل مواقف وممارسات أصحاب السعادة النواب.
لقد أفاض النواب في الحديث عن نقائص وعيوب بعضهم البعض، وتمادى بعضهم في المزيد من الاختزال المخل والمتعمد لحقيقة الكثير من الأمور، وبات كل منهم يفسر الحقوق الدستورية ويؤول نصوص المواد القانونية على هواه، وكل همه إدانة وإسقاط هذا الوزير أو ذاك في ظل جنون الارتياب في الآخرين الذي أصاب كثير من النواب، وبدوا وكأنهم في حالة مرض ميؤوس منها تقريباً، وركب هؤلاء النواب الشطط فباتوا ينصبون الكمائن، ويتصرفون بشكل ضاعت فيه الأولويات وتسطحت فيه أبعاد التحديات وأهدرت فيه قيمة الاستجواب، وأجبرنا على خفض سقف طموحنا إزاء الدور الرقابي المأمول للنواب، وكأن النواب لا يعلمون أن الهموم من كل نوع باتت تستولي على المواطن بالقلق والأرق والخوف.
وتستمر الحلقة المفرغة في دورانها، مهما علت نبرتها وضجيجها، والمشكلة أن ممثلي الشعب باتوا يضيعّون أوقاتهم وأوقاتنا في دفع مجريات الأمور إلى ما يجعل القلوب ملآنة، ويبقي الضجيج صاخباً يتعيش عليه البعض كل يحسب حساباته كما يشاء، أو لغاية في نفس يعقوب، وإلا فما معنى أن يمعن نواب كثر في صب جام غضبهم على نواب كثر آخرين في صورة كاريكاتورية فقط لأنهم لم يقفوا معهم في استهداف وإدانة هذا الوزير أو ذاك، ويتسابقون في ماراثون من التصريحات والبيانات والمؤتمرات الصحفية ليهاجم كل طرف الآخر، بقدر كبير من الخلط والإبهام والتمييع لكثير من المواقف والقضايا والدفوعات، والمواطن تائه وحائر بين هؤلاء الذين يضخمون من الإنجاز ويفتعلون قصص النجاح في مواجهة هؤلاء الذين يرفضون رؤية بصيص الأمل في النجاح والإنجاز.
بعيداً عن الخوص في التفاصيل، وتجنباً للوقوع في شراك تفاصيل التفاصيل، فإن ثمة حقائق لا بد من التنبه لها.
الحقيقة الأولى الغائبة في هذا الذي جرى ترتبط بإصرار بعض النواب على احتكار التمثيل الوطني ونكرانه على الآخرين ولكم أن تتصوروا تبعات وتداعيات ذلك وامعنوا جيداً في واقعنا الراهن لتلمسوا ظهور بعض النواب، وكأنهم وحدهم الوطنيون الشرفاء، ووحدهم الأمناء على مصير البلاد ومصالح العباد، أما الحقيقة الثانية فهي الجنوح بالعمل السياسي النيابي إلى الطأفنة بهذا الشكل الفج، بل إن النفس الطائفي كان صريحاً وواضحاً في كلا الاستجوابين ودوافعهما، وردود الفعل حيالهما من منظور “واحد منا وواحد منكم”، وبات هذا النفس واضحاً قبل ذلك في كل موقف، وكل نزاع، وكل تصريح، ووجدنا مواقف اشتبك فيها الطائفي والشخصي على نحو يصعب معه تخليص هذا من خيوط ذاك.
وبافتراض أن هناك ما ينزه عن هذا أو ذاك، ويعتبر ما يقوم به بعض النواب سياسة لا غير؛ فإن ذلك يظهر في الغالب على صورة قواعد كسور بين نواب موالاة ونواب معارضة، وهذه هي الحقيقة الثالثة التي يغيب فيها الاهتمام الجدي بعقلنة الممارسة النيابية والحد من شخصنة هذه الممارســـــة، وحال دون أن يكون أي طرح من منطلق وطني بحت أكثر عمقاً ووعياً وتأثيراً والتفافاً وأرفع نوعية ومستوى.
أما الحقيقة الرابعة التي وضحت للعيان، فهي أن صدور النواب قد ضاقت بالديمقراطية في حدودها المتاحة، الأمر الذي سمح لنوابنا بأن يكونوا أسرى فكرة اللحظة، وسياسة اللحظة، والخضوع لقدسية الأنا، وأصبح كثيرون عندما يتكلمون يرتكبون خطايا، وعندما يتصرفون يقعون في المحظور، وفاتهم أن الناس قد يغفرون الخطأ ولا يغفرون الخطيئة.
وتبقى الحقيقة الخامسة الغائبة والمغيبة أن الاصطفافات الطائفية أفرزت ليس فقط تعطيل النواب لدورهم في المساءلة والمحاسبة السياسية الدستورية تجاه أعمال وتصرفات السلطة التنفيذية، وعجز المجلس النيابي في هذا الشأن، بل وظهر المجلس وكأنه متواطئ أو متحالف مع السلطة التنفيذية على تعطيل وإيقاف هذا الدور وتعميق الخلل في تفعيل آليات ومراقبة هذه السلطة والإدارة التابعة لها عبر تفريغ قيمة الاستجواب من مضمونه وتحريف مساره إلى مهاترات جانبية ومناكفات وفوضى رغبات متناقضة ومصالح متصارعة، وممارسات متوحشة أدت إلى الانحراف بالعمل النيابي، وأصبح كل طرف يتهم الآخر بأنه نزع عنه ورقة التوت الأخيرة، وأنه حام وحارس للفساد، وبإمكاننا العودة إلى موجات التلاسن التي راجت ولا تزال فيما بين النواب وتبادل بعضهم لبعض الاتهامات بالفساد وعقد الصفقات فلربما تتضح الصورة لمن لم يروها واضحة.
واذا كنا نجمع على استشراء الفساد، وعلى ضرورة المسارعة في اجتثاثه ووقف اجتياحه في المؤسسات والنفوس والضمائر، فإن ما قام به النواب ليس فقط اهدار قيمة أهم أداة نيابية للرقابة والمساءلة وهي الاستجواب، وهو الحق الذي كفله الدستور بقصد بسط الرقابة البرلمانية التي قد تنتهي بطرح الثقة بالوزير المعني بالاستجواب، وإنما في ضوء عبثية هذا الذي جرى يكون الدور الرقابي للمجلس النيابي في خانة التمنيات طالما بات يصعب علينا أن نعوّل على النواب سواء من يوصفون بأنهم تابعون يدارون وفق مشيئات ويتوزعون وفق حسابات في أي دور حقيقي وفاعل ومؤثر في مواجهة الفساد، ولئن كان من نافل القول إن البديهي بوصفه بديهياً أنه إذا استمرت تجليات النواب كل النواب، واستمروا في التعامل كضدين، واستمروا في اختلاق مؤامرات ومتآمرين، وتبادل الاتهامات، والصاق كل قصور بالآخر، واستمروا في عجزهم عن مواجهة الذات بتلك الحقائق وحقائق أخرى كثيرة، فإننا حتماً لن نتمكن من المضي خطوة إلى الأمام، العلة ليست في طرف ما، أو كتلة ما، أو نواب بعينهم، رنها في النواب جميعاً وبالتساوي، وهي علة تزداد تفاقماً كلما ألقيت تبعاتها على الآخر، ورفضه الاعتراف بالآخر، وبقيت النوايا غير صافية ولا بد لنا إذا أردنا الخروج من النفق الذي وضع النواب أنفسهم فيه، ووضعونا معهم، من التوقف لتشخيص الوضع بموضوعية وصراحة، لعلنا نفلح في أن نجعل الاستجواب بل العمل النيابي برمته ملبياً لمقتضيات الصالح العام، وليس محصلة لتوازنات ورغبات أياً كان منطلقها أو دافعها، وإذا استمر الوضع على ما هو عليه سيكون خط الدفاع الأخير للعمل النيابي في خطر محدق.
صحيفة الايام
23 مايو 2008