يبدو أن الروائي البرازيلي جورج امادو، وقبل ما يقرب من نصف قرن عندما كتب روايته الشهيرة “دروب الجوع” والتي أحداثها التاريخية ابعد من ذلك الزمن، حيث كانت البرازيل بلدا عبوديا وعمل العبيد في مزارعها تحت السياط وعاشوا حالة الهروب من ذلة الضرب والاهانة والتجويع، وكأن جورج امادو كان يتنبأ بالمدن البرازيلية الجديدة وأحياء الصفيح المرشحة للانفجار الشعبي، خاصة بعد أن تحولت وتلوثت مدنهم بكل شيء وكأنما حضارة القرن المنصرم تغلق الأفق مبكرا، فازدادت رقعة الفقر والجوع، وبدلا من حل المعضلات توجهت البرازيل للطاقة الحيوية كنموذج حيوي لازمة الغذاء، التي تواجه العالم اليوم في اغلب البلدان النامية، بل وامتد تأثيرها على البلدان الغنية بهذا القدر أو ذاك.
لكن الأزمة تبقى أكثر تجذرا وتأثيرا على ملايين الفقراء في الدول الأشد فقرا في الدول النامية عن سائر البلدان، نتيجة مستوى التطور الاقتصادي والمعيشي ولواقعها الجغرافي والزراعي، ولكن أزمة الغذاء التي يتحدث عنها الجميع لم تعد حريقا في تلك البلدان وحدها، بل ودفع البلدان المنتجة للحبوب أن تعيد نظرتها الاستراتيجية في مخزونها الغذائي، خاصة بعد أن بدأ المناخ يؤثر على كوكبنا، خالقاً فيضانات وحالة جفاف وتصحر شديد في ذات الوقت، فكان الضحية الأولى من جراء ذلك التدمير البيئي المحاصيل الغذائية، ما أدى في نهاية الأمر إلى التراجع في الكميات المطلوبة للأسواق الخارجية والاستهلاك الداخلي، فهل بإمكان دول كبيرة كالهند والصين بعد أن تحسنت ظروفها المعيشية وتقدمها التنموي التضحية بشعوبها بحثا عن عملات صعبة في الأسواق العالمية بعد أن أصبح لديها بدائل وإمكانيات متنوعة في تنميتها الداخلية؟
بالطبع مثل تلك الدول التي ما تزال تفكر باستقرارها الداخلي وبتحسين وضع شعوبها لا يمكنها أن تدخل في أزمات حادة كالفوضى العارمة الداخلية بين السكان حال تعرضهم إلى ظواهر سيئة، ليس كالفقر وحسب وإنما بلوغ حالة التجويع والبقاء على حافة الهاوية، فمثل تلك الأوضاع التراجيدية لا يمكن أن يقبلها ساسة عقلاء يديرون بلدانهم بحكمة ورؤية استراتيجية وبتوازن دائم في تنميتهم السكانية والغذائية. لهذا فإن البلدان غزيرة الإنتاج والأكثر تصديرا للخارج بدأت تعيد النظر في سياساتها،إذ لا توجد ضمانات اليوم أن تبقى الطبيعة “طيبة وهادئة وصامتة” تغرقنا بحبها الدائم، فقد باتت تلك البلدان على موعد منتظم مع الفيضانات المدمرة للمحاصيل ولحالة التصحر المستمرة، فهل تبقى الأرض والزراعة ضحية وعدوا لقوت الإنسان؟ خاصة لدى شعوب تستهلك الحبوب الغذائية، وفي ظل كثافة سكانية تعد بالملايين ظلت تعيش بفكرة “اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب” إذ الغيب هنا قاتل للبشر وبصورة جماعية تذكرنا بعصور المجاعات التي كانت تجتاح البلدان والحضارات.
ولكي لا تقع الإنسانية في مأزق وأزمات من هذا القبيل، بدأت تفكر بأهمية الحفاظ على المخزون الغذائي استعدادا للازمات الطارئة، فشحت الأسواق المستهلكة وانخفض العرض من تلك المواد أن لم تقبل بالأسعار الجديدة القادمة من تلك البلدان، التي كان عليها كبلدان منتجة أن تستعيد الأموال الطائلة التي تذهب من خزينتها نتيجة استيراد النفط المرتفعة أسعاره بصورة جنونية خالقا حالة عدم استقرار، ما أدى إلى تفاقم الأوضاع الدولية من الجانب الآخر لوجه الأزمة الخفية.
ذلك الاختلال الواضح دوليا بين العملية الإنتاجية والتوزيع في النفط والمواد الغذائية، أعاد ضرب جرس الإنذار وإيقاظ العالم النائم في سبات الرفاهية بين بلدان تنعم برخاء اقتصادي كبير وبلدان تغرق في الحروب والفقر والبؤس الحياتي والاقتصادي، وبلدان أصبحت مديونة وأخرى بسبب الفساد الأخلاقي والمالي أدخلت بلدانها في أوضاع سيئة للغاية، خاصة على مستوى عدم قدرتها بل وفشلها في تأمين الغلال الاستراتيجية التي تهم حياة الغالبية العظمى من شعوبها، فبلدان من نمط العراق والسودان ومصر والمغرب والجزائر وغيرها، كان ينبغي عليها أن تكون دولا مصدرة وغنية بالغلات الزراعية والحبوب، ولكنها للأسف الشديد وجدت نفسها عاجزة أمام هذا الوضع العالمي المتأزم بأوضاع عدة، عن حل معضلة جوهرية تمس غذاء الناس، بل ووجدت نفسها مضطرة أن ترفع أو تفكر بجدية في رفع الدعم عن المواد الأساسية المتعلقة بحياة الناس، ما رفع من حالة التوتر السياسي الداخلي، واحتمال أن يتصاعد السخط في أية لحظة مفاجئة.
أمام هذه الأزمة العالمية وقف العالم مندهشا ومتسائلا ما الذي سيحدث أكثر خلال السنوات القادمة؟ فلم تجد الأمم المتحدة ومنظماته كـ (الفاو) إلا الجلوس والنقاش العاجل بوضع حلول سريعة، مناشدة العالم بالدعم العاجل لتنمية الزراعة في بلدان عدة، ولكن نشطاء أمريكا اللاتينية تحركوا بسرعة فشكلوا كتلة صغيرة بين فنزويلا ونيكاراغوا وبوليفيا وكوبا وبدأوا مشروعهم بمبلغ مائة مليون دولار للصندوق كدعم للمشاريع الزراعية، تحاشيا للازمات والانطلاق نحو المستقبل، وما علينا نحن الدول العربية إلا التحرك بسرعة فلدينا ثلاث مقومات كبيرة للنجاح في مجال الثورة الزراعية، فلدينا الجغرافيا الكبيرة في المساحات والصالحة للزراعة ولدينا أيضا المياه والأراضي الخصبة للزراعة خاصة، العراق ومصر والسودان والمغرب وسوريا وثالثا وهو المهم، دول نفطية غنية بإمكانها أن تستثمر في هذا المجال وتسترد أموالها بأرباح مجزية، خاصة وان الدول النفطية كليبيا والجزائر وبلدان الخليج المساهمة الفاعلة في هذا المشروع الاستراتيجي الهام، بل وستكون البلدان العربية قادرة على التصدير لبلدان بحاجة للمواد الغذائية. حان الوقت للتحرك نحو خطوات عملية وإلا ستضطر شعوب عربية عدة أن تنزل للشارع، فالجوع كافر إذ بإمكان الإنسان أن يعيش مع الفقر، ولكنه لا يستطيع أن يقاوم الجوع.
صحيفة الايام
2 مايو 2008