يستفرد الإسرائيليون بغزة بكل بساطة لحجمها الصغير ولجغرافيتها المحاصرة وللأبواب المصرية المغلقة، خاصة بعد أن وقعت مصر في الفخ السياسي منذ حقبة السادات، ولم تعد قراءة سياساتها الممكنة كدولة لها ميزانها السياسي والإقليمي في المنطقة وقدرتها على أن تستقل برأيها عن الضغط الأمريكي، وتلعب بالورقة الفلسطينية في صالحها وصالح القضية الفلسطينية، ومن منظور المصالح الثنائية والعربية باعتبار أن الشعبين ينتميان لموروث تاريخي وقومي واحد ولعضوية الجامعة العربية. ولو أصرت مصر بعد سنوات من رحيل السادات إعادة النظر في فحوى الاتفاقيات المعقودة مع الجانب الإسرائيلي لباتت المنطقة في وضع أفضل وبات المفاوض الفلسطيني يفاوض من موقع أقوى، حتى وان تبدلت القوى الفلسطينية في الضفة وتنازعت حماس وفتح، المهم هو الوقوف مع الشعب الفلسطيني.
ولكن المسألة اعقد من ذلك، فهناك ثلاثة جوانب لم يتم النظر إليها بمعيار سياسي دقيق، إذ ترتهن كل مسألة صراعا مع الدولة العبرية بها، وهي حلقات متداخلة مهمة فلا يمكن أن تتغير الموازين بين الأطراف المتصارعة دون الأخذ بمعيارها، الحلقة الأولى أن تكون الساحة السياسية الداخلية موحدة ومتماسكة أثناء مقاومتها الاحتلال الأجنبي مهما اختلفت زاوية الرؤى إزاء قضايا عدة، غير أن ذلك برهن غيابه في الوضع الفلسطيني، فبات لدينا حكومتان وشعب مقسم بينهما، لهذا وجدنا اولمرت يتذرع بحجة أن ليس كل الشعب مع عباس ونحن نتعامل مع جزء من الحكومة، واحدة في رام الله والأخرى في غزة حتى وان تم إقالتها على الأوراق والمراسيم! والحلقة الثانية إقليمية تلعب دورا مهما في الإخلال بالموازين وهي الحلقة العربية المتناثرة كحبات المسباح المتقطع، وهذا ما جعل المجتمع الدولي وإسرائيل ينظر للعرب على أنهم أكثر ضعفا من السابق، وتتقاسمهم المصالح الذاتية والعلاقات الدولية المتباينة، في وقت يرون أنفسهم محاور ومثلثات بأضلاع عدة لا تتقارب وتلتقي إلا عندما تنزل بهم محنة كبرى، ومتى ما زالت انفضوا عن بعضهم بعضا وصارت الجامعة العربية إطارا بلا صورة. وتبقى الحلقة الثالثة المجتمع الدولي الذي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي دخلنا في مأزق دولي مشتت، فبتنا كالتائهين بين محاور في عالم العولمة لا نعرف في أي سلة نضع أقدامنا مثلما لا نعرف أين نضع عملتنا الوطنية! وبما أن العالم يتعامل مع كتل إسمنتية قوية متراصة بموقف موحد، فان الوضع العربي الممزق والمتباعد في استراتيجياته ورؤاه الخارجية وثوابته، جعل الآخرين في عصر التكتلات ينظر إلينا على أننا “طوفه هبيطه” أي حائط سهل اختراقه واجتياز ممراته، بل ودفع إسرائيل بناء جداره ومستوطناته وتعدياتها الدولية دون احترام للمواثيق، وكأن اسرائيل دولة خارج المجتمع الدولي. وتعززت تلك الروح العدوانية والاستحواذ المتواصل على الحقوق المتبقية للفلسطينيين في ممتلكاتهم وأرضهم، محاولة الدولة العبرية في كل مرة التحايل والتلاعب على المجتمع الدولي بخطابات البكائيات على حقوقه وسيادة أراضيه وحماية شعبه دون أن يرى العالم ان المسألة متبادلة بين الطرفين، وان الواقع تحت ربقة الاحتلال هو الشعب الفلسطيني وجزء من الأراضي العربية.
وكلما تنازل العرب قليلا بدت السياسة الإسرائيلية أكثر مماطلة وتحايلاً، وكأنما الوضع الداخلي لليمين الإسرائيلي لا تعجبه المفاوضات وان الحقوق الكاملة للشعب العبري لا تزال غائبة وان التهديد القادم لها من دول الجوار معوقا للسلام. تلك النغمة ظلت طوال نصف قرن وعندما قبل العرب بالحوار والتفاوض والتطبيع بحثا عن السلام الدائم، انتقلت إسرائيل مجددا إلى لعبة المماطلة والخداع بأخلاقيات المرابي، موجهة للرأي العالمي والمجتمع الدولي ولشعبها في الداخل، ان المسألة لا تزال معلقة بإجراءات لم تكتمل وبحلم لم ينجز. مستفيدة من المتغيرات الإقليمية في العراق خاصة، وبلدان في الجوار معرضة للحرب، فلعل الورقة الإيرانية تشغل المنطقة بوضع جديد، ويتفرد الاسرائيلون بالبيت الفلسطيني والجنوب اللبناني.
ما يفعله اولمرت وحكومته في قطاع غزة ذريعة فجة اسمها الصواريخ وذريعة فجة اسمها الشعب الإسرائيلي، فمن خلال المسألتين يواصل تجويع سكان غزة دون أن يراعي ابسط قواعد الحرب، وقد وضع في رهانه حسابات خاطئة من ضمنها الصمت المصري، وبأن معبر رفح سيظل جدارا إسرائيليا، ولكنه في الضفة العربية! سخرية القدر أن يكون الشارع العربي والحكومات العربية ليست بمستوى رد الفعل المناسب، فهل بالإمكان أن نسحب معنا الشارع العالمي إن لم نكن نحن نشطاء فيه ومؤثرين على مجتمعه المدني؟ بينما كان اولمرت يخاطب الرأي العالمي – بعد أن شهد تزايدا تدريجيا في الاحتجاج والإدانات – وشعبه في الداخل بخطاب كاذب بقوله “نحن لن نسمح تحت أي ظرف أو وضع ان تطرأ أزمة إنسانية !!” غير أن عدوانيته تفضح إنسانيته وسخريتها حينما يواصل قوله “ولكن لن يحيا سكان غزة حياة طبيعية”.
فهل ينتظر اولمرت من مصر في ظل هكذا أزمة متفجرة في القطاع أن تقف ستارا مانعا عن سياسته الهوجاء على حساب الاستقرار الداخلي لمصر؟ كان ذلك واضحا في ترجمة مصر لصمتها عن عبور الآلاف إلى الجانب المصري وتدفق من الجانبين، وكأن العالم يشهد زمن جدار برلين العربي ينهار بين الضفتين العربيتين بعد استفحال التجويع والعقاب الجماعي. فهل هناك سخرية للقدر أكثر من ذلك؟! نعم هناك سخرية أعمق في التراجيدية الفلسطينية، حيث ينبغي تعلم الفصائل درس الوحدة الشعبية المنتفضة في غزة التي تحاربت ودخلت في اقتتال دموي، فترك فرصة وثغرة سياسية واسعة للإسرائيليين العبور منها، فهناك خلل في الموقف والرؤية الفلسطينية حول الآلية في فك عقدة الحلقة المغلقة، تيار يريد السلاح طريقا ومتهم بالإرهاب وتيار آخر بات مقبولا وينزع للحوار السياسي للحل، فإذا لم يتم تسوية تلك الرؤيتين لمواجهة إسرائيل فان الأزمة والمأزق الفلسطيني سيعود للدخول في الحلقة المغلقة ويدفع بالتالي لنتائج سلبية يدفع الشعب الفلسطيني ثمنها، وتضع تلك الخلافات الداخلية العالم العربي والمجتمع الدولي في حالة من الارتباك والحيرة، إزاء قوتين تنفردان بسلطات مقسمة ولكنها محتلة، وجغرافيا موزعة تحت الهيمنة.
وما حدث في غزة ليس إلا درسا للأطراف الفلسطينية والعربية جميعها بضرورة حسم الخلافات أولاً في البيت الفلسطيني والعربي لكي يصبح النسق الفلسطيني منسجما.
صحيفة الايام
29 ابريل 2008