أسعار النفط ليست في ارتفاع مستمر منذ العام 2003 فقط، بل وستستمر في الارتفاع بوتيرة أسرع على الأقل في السنوات الخمس المقبلة. وقد تبلغ ضعف ما هي عليه الآن حتى العام .2012 هذا ما تنبئنا به دراسة حديثة أصدرها الخميس الماضي مصرف كندا (CIBC) ونقلت عنها وكالة الصحافة الفرنسية (ا ف ب) في اليوم نفسه[1]. تقول الدراسة إن أسعار النفط ستضرب في العام 2010 رقما قياسيا يصل إلى 150 دولارا للبرميل (د/ب). وستضرب رقما قياسيا آخر مذهلا عندما ستصل إلى 225 د/ب في العام 2012!
الحجة القوية لهذه التوقعات أنه في حين بالكاد ستصل الزيادة في الإنتاج العالمي للنفط إلى مليون ب/ي حتى العام ,2012 يرى واضع الدراسة جيف روبين أن مبيعات السيارات قد نمت خلال السنة الماضية فقط بنسبة 60% في روسيا، 30% في البرازيل و20% في الصين. وهكذا فإن وقود السيارات سيشكل قرابة نصف استهلاك النفط في العالم. كما أن إنتاج شركة ‘تاتا’ الهندية للسيارات الشعبية ذات السعر المنخفض (2500 دولار، أي أقل من ألف دينار بحريني) سيتيح لملايين إضافية من الهنود امتلاك سياراتهم الخاصة. وسوف لن يغير كثيرا من زيادة حجم الاستهلاك العالمي. تراجع استهلاك الولايات المتحدة من النفط بمقدار مليوني ب/ي خلال السنوات الخمس المقبلة بسبب ارتفاع الأسعار هناك.
ننتقل إلى دراسة أخرى للسيد هومي خاراس (Homi Kharas) من معهد بروكينغز (Brookings Institution) تحدثت عنها صحيفة ‘لوس أنجليس تايمز’ في وقت مبكر من هذا العام وتفسر ليس ظاهرة ارتفاع أسعار النفط فقط، بل والارتفاع الجنوني في أسعار المواد الغذائية حول العالم[2].
تقول هذه الدراسة إنه إذا كان سكان العالم سيزيدون بمقدار مليار شخص خلال الـ 12 سنة المقبلة، فإن الطبقة الوسطى[3] ستزداد عالميا بأكثر من ذلك بكثير، 8,1 مليار شخص. وستسجل الصين وحدها ثلث هذه الزيادة (600 مليون شخص). نتيجة لذلك سيرتفع ثقل الطبقة الوسطى بين سكان العالم من 30% الآن إلى 52% العام .2020 وسوف يتضاعف عدد أفراد الطبقة الوسطى في تلك البلدان الفقيرة التي أصبحت الآن تحقق معدلات نمو حقيقية مرتفعة تنتشل من حالة الفقر أعدادا كبيرة من السكان. من نتائج التوسع العالمي في أعداد الطبقة الوسطى هذا الضغط الذي نشهده في السنوات الأخيرة على أسعار النفط والمواد الغذائية بدرجة رئيسة. المؤشر العالمي المتوسط لأسعار المواد الغذائية الذي وضعته ‘ذي إيكونومست’ منذ العام 1845 يبين أن هذه المواد لم تكن أبدا على هذا المستوى من الغلاء كما هو الآن. فخلال العام 2007 وحده ارتفعت الأسعار عموما بنسبة 30%، وعلى القمح وغيره من الحبوب بنسبة 80 و90%. ولم يعد فقراء الشعوب يحتملون الوضع. جاكرتا شهدت في بداية العام تظاهرة لنحو 10 آلاف شخص ضد ارتفاع أسعار البقوليات. وخرج السنغاليون إلى الشوارع احتجاجا على ارتفاع أسعار الأرز، والهنود على ارتفاع أسعار البصل. وفي الدول المتقدمة الإيطاليون على ارتفاع أسعار المكرونة. بلدان كثيرة في العالم أدركت أن موجة ارتفاع الأسعار العالمية تزداد ضراوة ليس بسبب الموجة العالمية فقط، بل ولأسباب داخلية تتضح في البون الشاسع بين أسعار الاستيراد وأسعار البيع بالمفرق، في اتساع هامش أرباح التجار. وأخذت هذه البلدان المسألة بالجدية اللازمة مراعاة لشعوبها أو خوفا من توترات اجتماعية سياسية تنذر بالانفجار الشامل. الأرجنتين، الصين، مصر، فنزويلا وروسيا وكذلك بلدان أخرى لجأت إلى فرض السيطرة الحكومية الكاملة على أسعار المواد الغذائية.
في بلدان مجلس التعاون تنعكس مشكلة ارتفاع الأسعار بسماتها الخاصة النابعة من طبيعة نظمها الاقتصادية الاجتماعية السياسية. وبينما تتأثر بشكل متعاكس من ارتفاع أسعار النفط وأسعار المواد الغذائية، فإنها تشهد في الوقت ذاته حراكاً اجتماعياً معاكساً لاتجاه الحراك الاجتماعي العالمي. جميع المؤشرات تشير إلى انهيار دراماتيكي في بنية الطبقة الوسطى لتترسب منها أعداد كبيرة إلى ما دونها. وقد تحدثت عن ذلك أكثر من دراسة وندوة علمية ومقالة وتقرير.
دول ‘التعاون’ لم تستفد من تجارب تضييع فرص ارتفاع أسعار النفط في الماضي. وقد جرى تشجيع ممثلي الطبقات الوسطى على توظيف مدخراتهم في مجالات الأسهم والعقار أساسا. وقد أدت انهيارات أسواق الأسهم المتتالية إلى فقدان قسم كبير من تلك المدخرات وإلى إفلاس أعداد كبيرة من السكان هوت إلى مستويات اجتماعية أدنى. ويحذر كثير من الاقتصاديين من أن تتبع حمى النشاط العقاري تشبع هذا القطاع بعد حين فتحدث الانهيارات التي ستهوي بأعداد إضافية واسعة أخرى من ممثلي الطبقة الوسطى إلى ما دونها. أضف إلى ذلك أنه مع تعاظم طفرة الموارد المالية للنفط يتعاظم التفاوت في توزيع الدخل الوطني والأراضي والامتيازات لصالح الفئات الأكثر تنفذا.
إن تآكل سعر صرف العملات المحلية بسبب الإصرار (تحت تأثير عوامل سياسية أكثر منها اقتصادية) على الإبقاء على ارتباط العملات المحلية بالدولار الأميركي بدأ يلقي بثقله حتى على رجال الأعمال والطبقات الثرية التي أصبحت تعد خسائرها فزعة بسبب هذا الارتباط. أما بالنسبة للمواطنين العاديين فإن الارتباط بالدولار إلى جانب ارتفاع أسعار الخدمات والسلع، وخصوصا الغذائية، قد جعل مما تبقى من مدخراتهم أقل قيمة وجعلهم أكثر عرضة ليس لمغادرة كثيرين مكانهم في الطبقة الوسطى، بل وللسقوط دون خط الفقر المتعارف عليه في هذه البلدان. وهكذا فمع ما يحدث من انهيارات في بنى الطبقة الوسطى فإن التوسع الاجتماعي سيكون مستقبلا ليس من نصيب هذه الطبقة التي تدعم الاستقرار والتوازن في المجتمع، بل الفئات الاجتماعية الدنيا التي ستدفعها أوضاعها المتزايدة ترديا إلى مزيد من الاحتجاج الاجتماعي. وما دامت هذه الفئات تعاني من الجهة الأخرى من منغلقات سياسية محكمة تحول دون التعبير عن نفسها على هذا الصعيد. وما لم تمارس الدولة دورها المطلوب في معالجة الوضع، فإنها لن تفعل سوى أن تفتح المجال أمام الفوضى بدل الاستقرار. تغيير نمط الاستثمار، توزيع للدخل أكثر عدلا، رقابة صارمة على الأسعار وتفعيل دور المجتمع المدني في الحياة السياسية والاجتماعية.. تلك هي، ببساطة، من أهم عوامل ضمان الاستقرار في مجتمعاتنا القلقة.
[1] وكالة الصحافة الفرنسية (ا ف ب)، 24 ابريل/ نيسان .2008
[2] راجع: موسى نعيم، صحيفة ‘لوس انجلوس تايمز’ الأميركية، 10 فبراير/ شباط .2008
[3] لا نقصد بالطبقة الوسطى الطبقة بمفهومها العلمي، بل الطبقات والفئات الاجتماعية الواقعة وسطا بين المجموعات الغنية والفقيرة.
صحيفة الوقت
28 ابريل 2008