المنشور

العلاقات الفلسطينية الروسية بين عصرين

منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في مطلع العقد الأخير من القرن الماضي، وما نجم عن ذلك من خسارة العرب حليفاً دولياً لهم كان يمثل إحدى القوتين العظميين اللتين تهيمنان على النظام الدولي والذي ساد خلال حقبة الحرب الباردة طوال نحو نصف قرن، منذ ذلك الانهيار والعرب يعبرون بين حين وآخر عن حنينهم الجارف لاستعادة شيء من مجد تلك الحقبة والتعويض عنها ببناء علاقات وطيدة مع الدولة الروسية الجديدة التي حلت محل الدولة السوفيتية السابقة المنهارة.
هذا الحنين العربي الجارف يعبر عن نفسه في كثير من الأحيان في مواقف وكتابات قوى اليسار العربي على اختلاف تياراته الماركسية والقومية بما يبدونه من دفاع محموم عن سياسات ومواقف روسيا التي تتطلع هي الأخرى لاستعادة مجدها “الغابر” كقوة عظمى يشار إليها بالبنان على الساحة الدولية، كما يعبر الموقف عن نفسه تارة أخرى في مواقف بعض الدول العربية التي كانت تربطها علاقات قوية مميزة مع موسكو خلال الحقبة السوفيتية، كسوريا وليبيا والى حد ما الجزائر وعراق ما قبل سقوط النظام البعثي السابق. ولعل السلطة الفلسطينية بزعامة الرئيس محمود عباس (سفير منظمة التحرير السابق في موسكو) هي واحدة من الأطراف العربية التي تحاول ان تتطلع الى مستقبل من العلاقات الثنائية مع روسيا تستعيد من خلالها شيئاً من الورقة الروسية المفقودة رغم مراهنة عباس عملياً بالكامل على الورقة الأمريكية، أي الدور الأمريكي، لحل القضية الفلسطينية، وكان آخر تعبير عن هذا التطلع قد تجسد في زيارة الرئيس الفلسطيني الأخيرة لموسكو وعقده مباحثات مع الرئيس الروسي بوتين حيث تمني روسيا النفس هي الأخرى باستعادة شيء من الدور الروسي المفقود في المنطقة العربية منذ انهيار النظام السوفيتي. لكن ما أشد الفارق بين العلاقات الروسية ــ العربية في عصر الاتحاد السوفيتي والعلاقات الروسية ــ العربية في عصر ما بعد انهياره! في العصر الأول الذهبي كان الاتحاد السوفيتي دولة عظمى جبّارة تشكل إحدى القوتين العظميين اللتين تتسيدان النظام الدولي حينذاك الى جانب الولايات المتحدة التي أضحت هي اليوم تتسيد بمفردها النظام العالمي الجديد، وكانت روسيا السوفيتية تمارس وقتذاك نفوذاً ودوراً هائلاً على الساحة الدولية وفي مختلف المحافل الدولية. كما كانت تقف بكل قوتها وجبروتها الى جانب قضايا العرب العادلة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، وتقدم مختلف أشكال الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري والتعليمي لهذه القضية، وحيث كانت جل أسلحة المقاومة الفلسطينية هي أسلحة سوفيتية، وحيث كان قسم كبير من الكوادر العلمية الفلسطينية المؤهلة تأهيلاً عالياً في مختلف المجالات العلمية والإنسانية هم من خريجي جامعات الاتحاد السوفيتي الذين درسوا هناك بالآلاف بفضل منح مجانية من الدولة السوفيتية. كما كانت الدولة الروسية السوفيتية تقدم مختلف أشكال الدعم أيضاً لحلفائها من الدول العربية كمصر الناصرية والجزائر وليبيا والعراق وسوريا واليمن الجنوبي، هذا فضلاً عن مختلف أشكال الدعم الذي كانت تقدمه لحركات التحرر الوطني العربية. وفي المقابل لم يكن حال العرب، أنظمة، وحركات تحرر، كحالهم اليوم من الوهن والتراجع، والأهم من ذلك لم تكن القضية الفلسطينية نفسها ومنظمة التحرير الفلسطينية على هذه الحال المأساوية من التفتت والانقسام غير المسبوق تاريخياً منذ انبثاق المنظمة عام 1964م. وفي المقابل ليست روسيا الاتحادية اليوم هي روسيا السوفيتية بالأمس من حيث القوة والهيبة والنفوذ الدولي الجبارة وإن راودتها نفسها هذه الأحلام، ففي ظل النظام الجديد الذي تحكمه مافيا سياسية اقتصادية، وبعد انفراط عقد الجمهوريات السوفيتية وانكفاء الدور الروسي بسبب مشاكل روسيا الداخلية، لم تعد موسكو تمتلك كل أوراقها السابقة، ولربما احتاجت الى وقت طويل من المخاض لاستعادة دورها ووزنها السوفيتيين المفقودين حتى أجل غير معلوم. لكل هذه الاعتبارات المتقدم ذكرها فإن الزخم الإعلامي الروسي الذي أحيط بزيارة الرئيس الفلسطيني لموسكو ولقائه الرئيس بوتين لا يعدو سوى فقاقيع هوائية لا ترقى الى التعويل الكبير لإحداث نقلة مهمة في حلحلة المأزق الذي تمر به القضية الفلسطينية. ومع أن وسائل الإعلام الروسية استبقت هذه الزيارة بالتعبير عن امتعاض موسكو من عدم بذل القيادة الفلسطينية اهتماما كافيا لإشراك روسيا في عملية “السلام” وعدم اطلاعها على تطورات المباحثات والاتصالات الفلسطينية مع الجانب الإسرائيلي، إلا ان ذلك الامتعاض يبدو أقرب الى النكتة وذلك بالنظر ليس لتلاشي وانكماش الدور الروسي في المنطقة العربية فحسب، بل بالنظر الى هشاشة الموقف الفلسطيني الرسمي الذي أضحى يعول بالكامل على الدور الأمريكي وبالتوازي مع انقسام فلسطيني وعربي خطيرين زادا من وهن ذلك الموقف. ولا يغير من هذه الحال محاولة عباس دغدغة مشاعر موسكو خلال الزيارة بإبداء التفاؤل من مؤتمر للسلام في الشرق الأوسط سبق أن اقترحته روسيا، إذ ان الرئيس الفلسطيني يعلم جيداً في قرارة نفسه ان مؤتمراً ترعاه روسيا في ظل الوضع الذي تمر به روسيا اليوم بعد فقد قوتها السوفيتية السابقة، وفي ظل الوضع المأساوي الذي تشهده الوحدة الوطنية الفلسطينية وغياب دور منظمة التحرير، وفي ظل تسيد الولايات المتحدة على الساحة الدولية وانفرادها بأوراق لعبة التسوية في الشرق الأوسط.. ان مؤتمراً كهذا في ظل كل ذلك لن يكون سوى مؤتمر لاستعادة الذكريات وتبادل الصور.. هذا اذا ما سمحت إسرائيل والولايات المتحدة أصلا بانعقاده. 

صحيفة اخبار الخليج
27 ابريل 2008