أصيبت منطقة الخليج بزلزال سياسي بعد غزو الكويت، وأثناء حرب التحرير فدخلنا مرحلة جديدة وفق متغيرات لا بد وان نتعاطى معها بسرعة؛ ففي هذا المناخ السياسي الأشبه بكارثة عالمية فمن جهة كان جدار برلين يتداعى، ومعسكر كامل يتفتت ويتهاوى كالكرتون المقوى، ومن جهة أخرى يقف العالم على كف عفريت في منطقة حيوية يتدفق منها أكثر من خمس من النفط العالمي؛ فاشتعلت الدنيا برمتها مع ذلك الغزو ثم مع ذلك التحرير.
في هذه الأثناء، برز بقوة في الساحة السياسية مصطلحان هامان، الديمقراطية وحقوق الإنسان باعتبارهما مدخلا هاما من مداخل ومهمات المرحلة، ومطلبا هاما للتنظيمات السياسية والحقوقية، باعتبار أن ذلك يصب في خانة المطالب الحيوية كانت يومها استجابات ايجابية من الغرب ومؤشرات داخلية ممكنة للتعاطي مع الظروف الجديدة التي بالإمكان أن تخلق انفراجا أوسع مما خلقته ظروف الغزو والحرب.
كان علينا تدارس الوضع فيما بين عامي ٠٩٩١ – ١٩٩١، فخرجنا بقرار ضرورة العودة بعد أن تشاورنا فيما بيننا كتنظيم وبين رفاقنا في الجبهة الشعبية، رفض البعض منا لتفسيرات خاصة العودة، بينما رفضت الشعبية بالكامل الرجوع، أما التيارات الدينية فلم نكن معنيين بها حتى تلك اللحظة بمستوى التنسيق أو غير ذلك. حملنا حقائبنا دون تردد وطرنا من بلدان مختلفة ولم يكن مطلبنا إلا حق العودة للوطن من الناحية الدستورية، وبأننا لسنا إلا طلابا للديمقراطية وحقوق الإنسان.
لم يكن يومها النظام السياسي في حالة استقرار داخلي بسبب الوضع الإقليمي وبسبب التحرك المحسوس الداخلي بين القوى الوطنية على مستوى النضال السلمي، وبمطالب حقوقية – سياسية مشروعة. لم يكن لدى الحكومة ولا أجهزة الأمن فرصة لتقليب الأوراق لمدة أطول فلم تترك العائدين أكثر من أربع وعشرين ساعة هي مدة تحقيق شكلي باعتبار أن المطار لا توجد به طائرات عائدة إلى حيث جئنا. باستثناء حالة واحدة هي حالة الدكتور عبدالعزيز الراشد الذي حلق في الفضاء لمدة أسبوع ما بين مطاري المنامة ودمشق فكانت تجربة قصصية جديرة بكاتب موهوب بتسجيلها.
لم تحرك عودتنا الماء في الشارع السياسي ولكنها أضافت قيمة سياسية معنوية لا أكثر عن أننا جزء من نضال شعبنا في الداخل، وبأن من حقنا العودة لبلادنا طالما أننا لم نرتكب عملا مخلا ضد القانون. فماذا حدث بعد هذه الفترة في الخارج؟ خاصة وان الكويت عادت لأهلها بعد التحرير، ودخل العراق في حالة الحصار الجديدة على الرغم من وجود نظام صدام حسين.
كنا على دراية كاملة بوضعنا المالي الجديد وتدهوره يوميا بعد انتهاء النظام في اليمن الجنوبي، وانتهاء معسكر كامل يقف معنا في جبهة النضال المعادي للامبريالية كحركة من حركات التحرر، غير أن نضال الشعوب مسارها لا يتوقف إذا عرفت كيف تعيد صياغة مشروعها الجديد، وتسأل نفسها أسئلة من العمق والجذرية بحيث يستطيع الفارس النهوض من كبوته. في هذه الفترة أدركنا أننا في بحر هائج من الحصار والظروف الخانقة، ولكن كان علينا تكييف أنفسنا مع المستجدات؛ فتم ضغط المصروفات وهي اكبر أشكال الخلل التنظيمي خاصة عندما يصبح أعداد الأفراد يفوق الحاجة! أما على مستوى التركيز السياسي في عملنا الخارجي وعلاقتنا الخارجية وتداخلها مع عمل الداخل كانت ورقة المطالب الثلاث هي الحلقة الأساسية في حركتنا ألا وهي عودة المنفيين وإطلاق سراح المعتقلين وعودة الحياة النيابية المعلقة وإلغاء مرسوم امن الدولة. يومها صارت هذه المطالب السياسية للتنظيمات لا تتعارض مع عمل منظمة حقوق الإنسان في الخارج التي اكتشفنا أنها ورقة مريحة للعالم؛ فلا بأس من يتحركون في المحافل السياسية أن يعرضوا مطالبنا تلك، ومن يتحركون في المحافل والأنشطة الحقوقية أن يعرضوا تلك المطالب وان كانت بتفاصيل إعلامية وتحريضية، مع العلم أن المنظمات الدولية لم تهتم بخطابنا الحماسي وبكائياتنا المريرة، فلديها من القضايا والمطالب والمظالم فوق طاولاتها وأرشيفها دول وشعوب تفوق وضعنا، فعلّة كل منظمة ترى نفسها أجدى بغيرها من الاهتمام.
فماذا حدث داخليا في فترة تحركنا بين ٢٩٩١ – ٦٩٩١ وهي الفترة التي عايشتها عن قرب إذ رحلت إلى ابوظبي في شهر فبراير من العام ٧٩٩١ تاركا خلفي الرفاق في الشام لعلهم يكتشفون إلى أين نحن ماضون بقارب مبحر نحو مرافئ مجهولة. وبما أن الأدوار لكل شخص فينا مختلفة من حيث النوعية والكمية فان لله والتاريخ، كان العبء الأكبر يقع على كاهل ساحة الشام وان بدا متخثرا عليلا ينهكه سرطان سياسي ببطء نحن والرفاق في الشعبية؛ فصرنا نتجاذب ليس إلا، فعندما لا تجد نفسك مشغولا بعمل جدي ستفرغ شحنات وضعك المزري فيما هو قريبا لك كما هو وضعك في الزنزانة مع شخص يعيش معك فهو الشخص المحبب لك وهو الشخص الذي ستجد نفسك مشحونا معه أو تصطدم مع جيرانك في الزنازين الأخرى أو الذين يعيشون معك فناء سجن واحد.
وبتعبيرنا الشعبي صارت العلاقة بين التنظيمات مثل علاقة »نسوان ريل« في هذه الحقبة ستنبثق العريضتان النخبوية والشعبية في الداخل، وكان علينا في الخارج كعمل للعلاقات الخارجية حمل صوت ومعاناة ومطالب شعبنا في الداخل إلى المحافل الدولية. ولكن ما الذي فعلته أولا العريضة النخبوية ومن أين ولدت تلك الأسماء؟ دعونا نتحدث كوقائع تاريخية؛ فمن يعيد قراءة الأسماء التي لم تتجاوز الخمسمائة اسم في العريضة النخبوية، حيث تبنت التحرير مع الشعبية حركتها وريادتها وكانت المبادرة مولودا تاريخيا في مطبخ جبهة التحرير ولم تكن الأسماء والرموز الدينية إلا أشخاصا يعدون على الأصابع. ومن يرغب في تنقيب وتفحص الأسماء من الباحثين والمهتمين عليه بالرجوع إليها.
دفع ثمن تلك العريضة أشخاص – لا نود ذكرهم – من اليسار البحريني ورموز دينية، وفي نفس تلك الاجتماعات المكوكية تعرف السياسيون على الشجاعة الأدبية وذهنية المغامرة وتاريخية الادعاء؛ فكل من حضر تلك الاجتماعات شهد كيف دارت النقاشات حول الآلية وماذا نفعل وكيف نواجه القضية وتطوراتها وتداعياتها. المسألة المحورية في العريضة أن يكون التحرك الأهلي سلميا دون أن يترك للطرف الآخر جر أصحاب العريضة للصدام أو التصعيد دون مبرر وغير ذلك من الهيجان السياسي والعاطفة المشحونة بالحماس. هذا الاتفاق في ٢٩٩١ – ٣٩٩١ تم كسره عام ٤٩٩١ دون العودة والحوار مع أطراف المعارضة لسببين تصور قادة المعارضة الدينية في الخارج أنها قادرة على تحريك الشارع بطريقتها وعنفها، وتصور قادتها في الداخل بأنها لا تحتاج إلى تلك الروح الجماعية والوطنية للعمل المشترك مفضلة أن تصبغ الحركة الشعبية بلونها وسيطرتها؛ فتتملك الشارع الطائفي، فنبعت فكرة العريضة الشعبية كانقلاب سياسي للدور والتوجه، وصار اليسار غطاء في الشكل ومهمشا في المضمون، ولولا شعورهم بالاتهام لفرديتهم المطلقة وبصبغتهم الطائفية المكشوفة لما عادت وتلبست الألوان المتعددة تلك مع أن كل الحقائق تشير إلى لونها الطائفي وأنانيتها ونزعتها الاستفرادية في القرار والحركة.
لهذا انتحت بنفسها خارج الارادة الجماعية سواء في العريضة النخبوية أو الشعبية حيث تم اتخاذ قرار أن تكون »العريضتان« سلمية المطالب وبعيدا عن السمات العنيفة. وان كانت العريضة النخبوية إفرازا ودفعا جديدا للتحرك الديني لكي تكون العريضة الشعبية عريضته خوفا من أن تبقى العملية في نطاق المطالب الوطنية المعتدلة، وبخشيتهم من تطويقهم عن حالة الانفلات. يومها كانت قراءة التيار الديني للوضع الإقليمي والداخلي خاطئة لكونها لم تدرك ما معنى توازن القوى والصراع الفعلي وما هي السيناريوهات المحتملة التي يمتلكها الجانب الآخر.
صحيفة الايام
27 ابريل 2008