المنشور

أيـــــــــــام زمـــــــــــــان‮..‬

في‮ ‬أيام زمان كان المرء عندما‮ ‬يحاول أن‮ ‬يطرد مجموعة من الأطفال‮ ‬يلعبون في‮ ‬الشارع‮ ‬يخرج له من‮ ‬يتحداه حينما‮ ‬يصرخ في‮ ‬وجهه‮ “‬إحنا واقفين في‮ ‬ملك الحكومة‮”.‬
وبغض النظر عن مسألة عدم إدراك هذا الطفل الفرق بين الحكومة والدولة،‮ ‬فإن الناس عموماً‮ ‬كان لديهم وعي‮ ‬وإدراك بأن هناك مساحات من الأراضي‮ ‬هنا وهناك وهنالك هي‮ ‬ملكية عامة لا‮ ‬يجوز لأحد أن‮ ‬يضع‮ ‬يده عليها بصورة‮ ‬غير مشروعة،‮ ‬أو‮ ‬يتصرف فيها كيفما شاء ليقيم عليها ما ‬يحلو له من مشاريع وعقارات دون حسيب أو رقيب،‮ ‬ودون أن‮ ‬يدفع ديناراً‮ ‬واحداً‮ ‬يذهب إلى خزينة الدولة‮..!! ‬
الآن الوضع اختلف تماماً،‮ ‬والوضع‮ ‬غير الوضع،‮ ‬والزمن‮ ‬غير الزمن،‮ ‬والسطو تمدد ولم‮ ‬يعد قاصراً‮ ‬على الأراضي،‮ ‬بل إنه‮ ‬يشمل الآن السواحل والشواطئ،‮ ‬ولم‮ ‬يعد متبقياً‮ ‬من سواحل البحرين العامة سوى ‮٣‬٪‮ ‬فقط ويحاصر المتبقي‮ ‬منها من المطامع والمطامح ما نعلم وما لا نعلم،‮ ‬وما زال الناس‮ ‬يتداولون في‮ ‬غياب الحد الأدنى من الشفافية ما لا حصر له من القصص والروايات عن السباق العبثي‮ ‬لابتلاع النسبة القليلة المتبقية‮.‬
لذا،‮ ‬يجب أن لا نلام اذا اعتقدنا ان نقاش النواب في‮ ‬الأسبوع الماضي‮ ‬حول ما أسموه بالهجمة الشرسة لهوامير بل حيتان السواحل والشواطئ هو من بـــاب‮ “‬سياسة الأقراص الفوارة‮”..! ‬وما جرى من نقاش وما طرح من رؤى ومطالبات في‮ ‬شأن هذا الملف الذي‮ ‬نرى بأنه أخطر وأهم الملفات على الإطلاق،‮ ‬ليس سوى تكرار واستنساخ لما حصل في‮ ‬مرات سابقة في‮ ‬مجلس النواب،‮ ‬وفي‮ ‬غير مجلس النواب،‮ ‬فهذه ليست المرة الأولى،‮ ‬ولا الثانية،‮ ‬ولا الثالثة ولا حتى الألف الذي‮ ‬يثار فيه هذا الملف في‮ ‬أكثر من مشهد‮ ‬يقلّب المواجع،‮ ‬وهو في‮ ‬جملته من بدايته إلى منتهاه ‬يبدو عبثياً‮ ‬صادماً‮ ‬في‮ ‬الفعل وفي‮ ‬ردة الفعل‮.‬
ربما في‮ ‬ظل‮ ‬غياب صدى لهذا الخلل والتراخي‮ ‬العميق التي‮ ‬اعترى مسار هذا الملف وكيفية التعاطي‮ ‬معه فإنه‮ ‬يحق لنا أن نكون متشائمين،‮ ‬لذا سنظل نعتقد بأن النواب وغيرهم من ممثلي‮ ‬بعض القوى السياسية الذين تعودوا على إثارة هذا الملف بصورة أو بأخرى في‮ ‬الندوات العامة والمنتديات الإلكترونية،‮ ‬أو الذين اعتصموا في‮ ‬المحرق ومثلوا تلك القوى وغيرها من قوى مؤسسات المجتمع المدني‮ ‬بأنهم سيظلون إلى ما شاء الله‮ ‬ينفخون في‮ ‬قربة مقطوعة‮..!!‬
لذلك لن‮ ‬يكون مستغرباً‮ ‬أن تظل اللجنة البرلمانية المعنية بالتحقيق في‮ ‬التجاوزات الواقعة على البحر والسواحل بفعل الردم‮ “‬الدفان‮” ‬حائرة،  ‬تعاني‮ ‬باعتراف رئيسها من عدم تعاون الوزارات التي‮ ‬تمارس سياسة النعامة وعدم مدها بالمعلومات المطلوبة،‮ ‬وعاجزة عن معرفة أصحاب المناطق المدفونة،‮ ‬وعن فهم واستيعاب محاولات عرقلة عملها للحيلولة دون إتمام مهامها بشكل متكامل‮.. ‬ولعلها نفس الحيرة،‮ ‬ونفس السيناريو حينما كشف رئيس لجنة التحقيق البرلمانية في‮ ‬أملاك الدولة عن تلكؤ الجهات المعنية في‮ ‬تزويد اللجنة بالمعلومات المطلوبة بشأن حصر أملاك الدولة من أراضٍ‮ ‬ومبانٍ‮ ‬وعقارات للتأكد من ادارتها وحسن استثمارها،‮ ‬وهذا أمر لا‮ ‬ينبغي‮ ‬أن‮ ‬يثير استغرابنا،‮ ‬ولا بد أن‮ ‬يكون وارداً‮ ‬في‮ ‬حسبان هذه اللجنة أو تلك لاعتبارات لا بد أن تكون معلومة‮.‬
إن الأجواء المقبضة والمعتمة التي‮ ‬تحيط بهذا الملف تجبرنا على عدم رفع سقف التوقعات إلى المستوى الذي‮ ‬تبناه بعض النواب حينما طالبوا باسترجاع كافة السواحل إلى الملكية العامة،‮ ‬واعتبروا ذلك جزءاً‮ ‬من المسؤولية الوطنية الكبرى على عاتق المؤسسة الرسمية ليستفيد منها كل المواطنين ومنع استغلالها في‮ ‬المشروعات أو الانتفاع الخاص،‮ ‬وأحسب أن كل كلام قاله النواب بمن فيهم الذين ارادوا أن‮ ‬يكون أكثر واقعية من‮ ‬غيرهم حينما طالبوا بإيجاد سواحل عامة للمواطنين،‮ ‬وإيجاد منافذ بحرية وتوفير شواطئ للمدن والقرى الساحلية،‮ ‬كل كلام قيل في‮ ‬صدد هذا الملف،‮ ‬لن‮ ‬يستطيع أن‮ ‬يغوص في‮ ‬أعماق المشكلة بشجاعة ولن‮ ‬يخلصنا من أسر هذه المراوحة في‮ ‬التعاطي‮ ‬مع هذا الملف الذي‮ ‬يحمل في‮ ‬ثناياه كثيرا من الشطط،‮ ‬وكثيرا من الأمور الخطيرة والشائكة والمعقدة الضاربة على الأوتار الحساسة،‮ ‬وكثيرا مما‮ ‬يثقل ضمير المرء بسبب‮ ‬غياب البوصلة الدقيقة والصحيحة التي‮ ‬حكمت وتحكم موارد وثروات الدولة من أراضٍ‮ ‬وسواحل وبحار ومال عام‮. ‬ومدعاة للدهشة أننا أينما نولّي ‬وجهنا إلى أي‮ ‬شطر نجد الدفان والردم‮.‬
أخيراً‮.. ‬لا نجد مفراً‮ ‬من التأكيد مرة تلو المرة بأن هذا الملف هو أخطر وأهم الملفات،‮ ‬ليس فقط لما تخلله من مخالفات وتجاوزات ضربت بالقانون عرض الحائط مما لا‮ ‬يمكن اغتفاره أو السكوت عليه،‮ ‬وليس لأن عشرات من المليارات من الدنانير كان‮ ‬يمكن أن تدخل في‮ ‬رصيد الدولة لتقام عليها مشاريع ومشاريع،‮ ‬وليس بمقدور أي‮ ‬مسؤول أن‮ ‬يبعث فينا الاطمئنان حينما‮ ‬يصرح بأن معظم الأراضي‮ ‬البحرية في‮ ‬جزيرة المحرق في‮ ‬المخطط الهيكلي‮ ‬الاستراتيجي‮ ‬الجديد هي‮ ‬ملك للدولة؛ فالقضية برمتها أعمق من ذلك،‮ ‬فهي‮ ‬في‮ ‬أبسط تحليل تتعلق بمستقبل الأجيال القادمة وحقها في‮ ‬أن تجد لها مسكناً،‮ ‬والخوف كل الخوف أننا خسرنا كل ما لدينا من رصيد للمستقبل دون أي‮ ‬جهد‮ ‬يذكر للاحتياط والتوقي،‮ ‬ونعلم أن مشوار أرض لكل مواطن هو مشوار طويل ومعقد ومكلف ويتطلب تضحيات وجرأة،‮ ‬هذا اذا أردنا أن نمضي‮ ‬حقاً‮ ‬في‮ ‬هذا المشوار،‮ ‬لكن أن ‬يكون اليوم لنا خيار مكلف خير من أن‮ ‬يأتي‮ ‬يوم فلا نجد ذلك الخيار‮.‬

صحيفة الايام
25 ابريل 2008