لعل واحدة من أهم القضايا الآنية التي تواجه ثقافتنا الوطنية وتمس صميم هويتنا البحرينية المميزة ولم تحظ بعد بأي اهتمام يذكر، اللهم النزر اليسير، مسألة المحافظة على معالم تراثنا المعماري التي يتعرض معظمها إما للتصدع والتشققات حيث تحولت إلى مبان آيلة للسقوط بفعل الاهمال الجسيم، وإما للنسف المنهجي المتعمد لأغراض استثمارية او سكانية أو عمرانية ادارية كمبان جديدة للمؤسسات الادارية العامة والخاصة. ويزيد من مأساة هذه القضية التي تمس وتعاني منها ثقافتنا الوطنية، ليس اهمال الدولة الجسيم لهذا الجانب المهم من صور هويتنا الوطنية فحسب، بل ما تواجهه هذه المسألة الحضارية البالغة الأهمية من تجاهل ولا مبالاة من قبل قوانا السياسية ومؤسسات مجتمعنا المدني بوجه عام، والمعنية منها بالمسائل الهندسية والتراثية المعمارية بوجه خاص.
فلئن كانت على سبيل المثال القضية البيئية تحظى ولو شكليا بشيء من الاهتمام ولها عدد من الجمعيات الاهلية المعنية بها، فضلا عن الهيئات والمؤسسات الرسمية، فإن القضية البيئية التراثية المعمارية تكاد تكون مغيبة تماما عن أي شكل من اشكال الاهتمام، وبخاصة بالنظر الى ما تزدحم به أجندة العمل الوطني العام من قضايا آنية متعددة لا حصر لها، ولعل غياب الوعي الوطني بأهمية المحافظة على تراثنا المعماري ليس في اوساط العامة فحسب، بل في أوساط شرائح واسعة من مثقفينا، فضلا عن انغماس جل مهندسينا، وعلى الاخص المعماريون منهم في اعمالهم “البزنسية” الخاصة، لعل كل ذلك ساهم في صنع المأساة الراهنة التي يواجهها تراثنا المعماري الذي لم يتبق منه سوى النزر اليسير. قبل فترة وجيزة استمتعت حقا بقراءة مقالة قيمة مفيدة للأخ أحمد عبدالرحمن الجودر تتناول واحدة من قضايا تراثنا المعمارية الراهنة ألا هي المصير القاتم الذي ينتظر واحدا من أهم المباني والمعالم المعمارية في قلب سوق العاصمة القديمة وهو مبنى البريد المقابل تقريبا لباب البحرين ويقع على بضع خطوات منه، (سياسات الحفاظ على التراث المعماري، الوسط 14/4/2008م). وتعكس التحليلات والأفكار الواردة في هذا المقال شخصية كاتبه ليس كمتخصص في عمارة وتخطيط المدن فحسب، بل بما يتمتع به من ذائقة فنية معمارية وحس ابداعي ووعي وطني على مستوى عال، كما يتجلى ذلك بوضوح في الأفكار والآراء التي طرحها على بساط البحث في المقال المذكور حول اهمية المبنى كمعلم معماري مهم من معالم العاصمة التراثية. ذلك بأن الكاتب وعلى الرغم من انه ينتمي الى واحدة من أكبر واعرق مدننا البحرينية الا هي “المحرق” والتي تتميز أيضا بعراقة مبانيها ومعالمها المعمارية التراثية، ورغم اعتزازه بهذا التراث المعماري العريق لمدينته والذي يشاركه فيه كل البحرينيين من ذوي الذائقة والحس المعماري التراثي الرفيع وان كان ذلك مبعث اعتزاز اكبر لدى ابناء هذه المدينة، فانه لم يجعل هذا الاعتزاز بأن تتملكه نزعة نرجسية ضيقة متشرنقة تحجب عنه الاحساس الوطني والابداعي لما يزخر به وطنه من كنز كبير من المعالم والمباني المعمارية التراثية في مختلف مدن وقرى البلاد. وإذ استعرض الكاتب المعايير والاعتبارات التي تستوجب المحافظة على هذا المبنى المعماري التراثي – مبنى البريد – مثله في ذلك مثل قوس باب البحرين ومباني دور المحاكم المجاورة له، وإذ شدّد على أهمية حمايته من الازالة في اطار مشروع تطوير سوق المنامة القديم فان الآمال مازالت معقودة بقوة في أن تتكاتف جهود كل الخيرين وتستنهض همم كل المعنيين المعماريين الذين يعز عليهم الوضع الحالي الكارثي الذي يواجه كل المعالم والمباني التراثية في مختلف مناطقنا لصيانة ما تبقى منها والمحافظة عليه. وإذ كان للقطاع الخاص على حد تعبير الكاتب الجودر مبادرات لترميم بعض المباني التراثية مثل بيت عبدالله الزايد، وبيت محمد بن فارس، وبيت جمشير، واللوفونتين، وبيت ابراهيم العريض بالعاصمة، والذي يكاد يكون هو البيت الوحيد الذي حظيت به العاصمة من تلك المبادرات الخاصة.. فهل نأمل مع الكاتب في أن تبادر الحكومة على الأقل إلى ترميم وصيانة ما تبقى من مبان حكومية قديمة مازالت في عهدتها، وجلها كما نعلم في العاصمة، وبخاصة تلك التي ترمز الى البدايات المبكرة لنشوء الادارة العامة الحديثة التي قامت عليها دولة الاستقلال لاحقا؟ وهل نأمل ايضا في أن يكون للحكومة دور فعال ولو من باب الدعم المعنوي التشجيعي لممارسة نفوذها، بحث مؤسساتنا الاقتصادية الخاصة الكبرى وكبار اثريائنا على الإقدام على مبادرات من هذا القبيل لصيانة ما تبقى من مبان ومعالم معمارية تراثية أهلية مهمة في مختلف ربوع البلاد؟ أخيرا إذ نحيي الأخ الكاتب المقل أحمد الجودر على هذا المقال القيم لنأمل ان تكون له اسهامات كتابية اكثر مستقبلا في تناول مثل هذه القضايا التراثية المعمارية، كما نأمل ان تستنهض هذه القضايا همم سائر مهندسينا وفنيينا المعماريين ولاسيما في جمعية المهندسين وذلك للاضطلاع بمسؤولياتهم الوطنية في هذه القضية الحيوية البالغة الأهمية.
صحيفة اخبار الخليج
24 ابريل 2008