عندما انهار المعسكر الاشتراكي انهارت معه مشاريع كثيرة، بل وتخبطت الحركة الوطنية سياسيا وتنظيميا، خاصة اليسار منها، ولكنها بعد عثرتها وجدت نفسها تكتشف إن هناك طرقا عدة لتسليط الضوء على قضايا داخلية بصورة هادئة ومقنعة لها استجابتها في الخارج كونها سياسية من جهة ومن الجهة الأخرى حقوق سياسية منتهكة كما هي مسألة النفي ومصادرة الحياة النيابية ووجود قوانين معطلة للحريات والدستور كما هو المرسوم بقانون امن الدولة.
ولكي تتمكن القوى السياسية البحرينية في الخارج من خلالها جذب تعاطف المنظمات الدولية فبدا التناغم منسجما ما بين حركة الداخل وإيقاع الخارج في تعاملها مع المنظمات الدولية لعلها تكون قوة ضاغطة ومؤثرة، والتي ظلت ترى في التحرك السابق للمنظمات السياسية تحركا سياسيا وليس حقوقيا، بل واتهمت المنظمات الدولية التيار الإسلامي في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات بأنها تنظيمات طائفية ومشاريعها ومطالبها طائفية، فكان على الحركة الوطنية اليسارية القائمة على تنظيمي الجبهة الشعبية والتحرير، أن تسعى للتأثير على مسارات الحركة الدينية في هذا الجانب بالرغم من نفوذها المالي ووضعها التنظيمي المنهك.
وللعلم لم يكن في حينها أي حضور للتنظيم البعثي في الخارج طوال الثمانينات وأوائل التسعينات – كالتجمع القومي ولا الوسط القومي الإسلامي – ومن تابع منشورات وأدبيات التيارات الدينية في الخارج سيجد طبيعة خطاباتها في البداية وطبيعة خطاباتها فيما بعد، إذ تبلورت لديها – إلى حد ما – الآلية السياسية في مخاطبة العالم الخارجي، بدلا من الدعائية السياسية والتضخيم الدعائي، فقد كانت محطة البي بي سي تتهم تلك التنظيمات بهذه التهم الطائفية إلى جانب إبراز ونفخ الروح الطائفية من جهة أخرى بهدف “تطويفها بقصد” فوقعت في وهم إن المحطات والمنظمات الخارجية تقف معها بينما الفخ هو تقسيم نضالات الشعوب على أساس الطوائف والملل وضربها من الداخل دون تشعر بحقيقة ذلك الفخ المنصوب لها.
بهذه الروح حملت المعارضة البحرينية لواء الدفاع عن حقوق الإنسان، فصارت حقوق الإنسان عندنا مجزأة على أساس تنظيمي وإيديولوجي وليس حقوقي وسياسي، وبدلا من أن تلتحق منظمة حقوق الإنسان التي شكلتها التيارات الدينية مع منظمة حقوق الإنسان التي حمل اليسار لواءها، صرنا نرى وجهين لحقوق الإنسان، ولو كان هناك وعي حقيقي بتلك المسألة لم تفتت وعاشت هذه المنظمة الحقوقية الوطنية التابعة للجميع، غير أن ما نود قوله هو تلك النزعة الإيديولوجية والتعصب الحزبي وروح التفرد بزعامة كل عمل جماهيري في الساحة، يسعى الجميع إلى تملكه دون الارتفاع والخروج عن النزعة الزعامية والسيطرة الحزبية الضيقة، فبدت البحرين الصغيرة في الخارج نموذجا للتشرذم حتى في طبيعة عمل منظمة حقوق الإنسان.
لا أريد التركيز على المثالب والأخطاء والنعرة الطلابية والحزبية الضيقة أثناء عمل لجنة التنسيق بين اليسار عند عملهما المشترك، وكيف بدت مؤثرات الماضي والذهنية المنغلقة بالموروث الحزبي تسحب وتعكس نفسها على غالبية أعمال الطرفين في عملهما المشترك من اجل قضية مصيرية واحدة إلا في حالات، كان الخيار التاريخي يفرض نفسه عليهما، بل والشارع البحريني في الداخل يقدم نموذجا أكثر تطورا وانسجاما من الخارج، الذي ظل حتى وقتنا الحالي يعيش بسلوكيات طلابية تذكرنا بالاتحاد الوطني لطلبة البحرين.
من المؤسف أن نجد أنفسنا بعد هذه الحقبة الزمنية المريرة نعود إلى الدائرة نفسها، والتفرد والركض وراء سباقات خاسرة مصيرها الفشل في النهاية، لطالما زعماء الحركة السياسية يفكرون بفلسفة التسابق في حلبة الرهان كما يراهن المغامرون على خيول خاسرة. فماذا حدث لمنظمة حقوق الإنسان التي عملت في الخارج بروح إيديولوجية بحتة لطالما مؤسسيها تنظيمات سياسية مؤدلجة، بالرغم من أنها وضعت أمام المنظمات الدولية العالمية فوق وجوهها أقنعة حقوقية؟!!
لا بأس وان كان من يقودون ذلك العمل الحقوقي هم أنفسهم من يقودون العمل السياسي وينتمون لقيادات تنظيمية، بحجة تداخل المهمات، فتم على هذا الأساس الانتقائي ما يناسب تلك القوى المعارضة، وكنت واحدا من هؤلاء المجموعة، وعملت ضمن طاقم هذه التركيبة التي لم تستطع فك الارتباط بين الاثنين لحساسية الوضع في الخارج، ولغياب منظمة حقيقية منفصلة بعملها وآليتها في هذا المجال مركزها الحقيقي في الداخل، بحيث لا توجد مؤثرات ايديولجية وتنظيمية تضغط على شخوصها من جوانب عدة.
كان ذلك مفهوما ومقنعا إلى حدود معينة نتيجة الشروط والظروف التاريخية للبلاد وللتنظيمات، ولكن فيما حدث متغير تاريخي كبير في البلاد مع اعتلاء الملك سدة الحكم، ومن ضمنها انتهاء وجود معتقل سياسي واحد في سجون البحرين وثانيا تم إلغاء مرسوم امن الدولة وعاد للوجود المجلس الوطني – وسنتحدث عن الانتهاكات في مرحلة الإصلاح – وثالثا عودة المنفيين للوطن. فكيف كان وضعنا الحقوقي خلال السنوات السبع؟ وكيف أدارت تلك المنظمات عملها في الداخل والخارج؟ لماذا تناقضت هذه المنظمة مع طبيعة شرعيتها وعملها في عمل علني مرتبك وفي ظروف مرتبكة؟ سنكمل الحديث في حلقتنا الثالثة.
صحيفة الايام
24 ابريل 2008