تكتسب احداث العنف التي تخللت انتفاضة الشطر الجنوبي والتي اندلعت بين أواخر شهر مارس الماضي وأوائل شهر أبريل الجاري على مدى نحو اسبوع كامل.. تكتسب ابعادا سياسية عميقة المغزى، سواء من حيث توقيتها الذي جاء عشية الذكرى الـ 19 لقيام الوحدة اليمنية ومرور نصف قرن على الوحدة المصرية – السورية، أم من حيث مكانها حيث اقتصرت على المحافظات الجنوبية تحديدا التي كانت تشكل دولة اليمن الجنوبي سابقا، (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية)، دونما أن يكون لها امتدادات تذكر في المحافظات الشمالية التي كانت تشكل دولة اليمن الشمالي (الجمهورية العربية اليمنية)، ام من حيث تزامنها مع الظروف الاقتصادية المعيشية العالمية التي تشهد ارتفاعات حادة في اسعار السلع الغذائية وتصاعد نسب التضخم في اقتصاديات معظم دول العالم وعلى الاخص العالم الثالث، أم من حيث المغزى والدرس المستفاد عربيا من تلك الهبة الشعبية الجنوبية التي تخللتها أعمال العنف تلك.
فأولا: فمن حيث توقيت الانتفاضة فان مغزاه يكمن في انه يأتي غداة الذكرى الخمسين لقيام أول وحدة عربية في التاريخ العربي المعاصر، الوحدة المصرية – السورية، وعشية الذكرى الـ 19 لوحدة الشطرين اليمنيين، فان هذا الانفجار الكبير الذي حدث في الجنوب يعكس الخلل الكبير في الأسس التي قامت عليها وحدة الشطرين، اذ على الرغم من ان هذه الوحدة هي حلم عزيز ظل يراود اليمنيين طويلا، فإن تحقيقه بتلك السرعة والكيفية التي جرت فجأة غداة الحرب الاهلية في الشطر الجنوبي في اواسط عقد الثمانينيات وعشية سقوط المعسكر الاشتراكي الاوروبي في اواخر ذات العقد. وكان من الواضح الارتجال والاندفاع نحو دغدغة مشاعر اليمنيين في الشطر الجنوبي للهروب مما خلفته الحرب الأهلية (انفجار يناير 1986 في الشطر الجنوبي) وسقوط المعسكر الاشتراكي من تداعيات خطيرة. وبات من الواضح ان اليمنيين، وعلى الرغم من اختلاف ظروف تجربتي كلتا الوحدتين لم يستفيدوا كافيا من دروس الوحدة المصرية – السورية عام 1958م والاسباب الموضوعية والذاتية التي افضت الى فشلها وفي مقدمتها غياب المشاركة السياسية الشعبية في صنع قرار الوحدة وبخاصة في ظل تباين البنية ومستوى التطور الاجتماعي بين الشطرين اليمنيين كما هو بين سوريا ومصر. وبسبب تفاوت هذا التطور بين بنيتي الشطرين الاجتماعيتين فان الجنوب كان الخاسر الاكبر من الدمج السريع ولاسيما بالنظر الى ما افتقده من مكتسبات سياسية واقتصادية وتعليمية وثقافية واجتماعية كبيرة حققها في ظل النظام الاشتراكي السابق بغض النظر عن طابعه الشمولي المعروف. ثانيا: ان اقتصار الانتفاضة على المحافظات الجنوبية دون الشمالية وبخاصة في محافظتي لحج والضالع لهو دلالة مهمة عميقة المغزى ليس على تفاوت هذا التطور الاجتماعي بين الشطرين بل على فشل هذا الدمج على صعيد الواقع الفعلي الاجتماعي، وبات واضحا ان الجنوب ابتلِع لصالح الطبقة السياسية الحاكمة في الشمال، وان الوحدة التي تحققت بإرادة حرة طوعية بين نظامي الشطرين صورها النظام الشمالي في صنعاء بأنه صاحب الفضل فيها وان قادة الجنوب ليسوا سوى انفصاليين، وذلك بعد الحرب الاهلية بين الشطرين عام 1994م وما اعقب ذلك من ثارات سياسية اقصائية وتمييزية ظل ينتهجها تجاه الجنوبيين منذ ان خرج نظام الشمال السابق من الحرب منتصرا، وزاد اختلال تقاسم السلطة والثروة بين الشطرين لصالح الشمال على حساب الجنوب. كما ان تركز الانتفاضة في المحافظات الجنوبية يعكس في ذات الوقت من جهة اخرى الطابع الجهوي للحزب الاشتراكي الحاكم سابقا حيث معقله وقواعده الاساسية في الجنوب وفشله حتى الآن في الامتداد والانتشار في الشمال بصورة كافية. ثالثا: على الرغم من ان اليمن هو واحد من افقر البلدان العربية وعلى الرغم من غياب التوزيع العادل للثروة والمشاركة السياسية هما سمتان ونتيجتان يتقاسمها الشعب الواحد في كلا الشطرين فإن النظام القائم في صنعاء بسياساته الجهوية والقبلية والطبقية استطاع ببراعة ان يغلف الصراع الاجتماعي المحتدم بتلك الصراعات الفرعية ويحول التناقض الرئيسي وكأنه تناقض بين شمال محظي بالمحاباة والجاه والثروة وجنوب محروم من كل ذلك، ولعل اخطر ما في هذه السياسة يتمثل عندما يحتج الجنوبيون على هذا التمييز الفعلي وان كان غير جوهري فانه يصور بأنه احتجاج على حظوة الشماليين وهو ما يثير الحساسيات. ولم تكن الطبقة الحاكمة في صنعاء هي وحدها التي برعت في اللعب على وتر التفرقة الجهوية والطائفية لإثارة الحساسيات بين فئات وأبناء الشعب الواحد والكسب من سياسة فرق تسد بل برع فيها العديد من الانظمة العربية في الصراعات الاجتماعية الدائرة حاليا في بلدانها، وهي من اخطر واعقد التحديات التي تواجه حركات المعارضة في تلك البلدان. رابعا: ثمة اربعة عوامل سياسية واقتصادية لعبت مفاعيلها في الانفجار الاجتماعي الذي حدث في الجنوب يمكن تلخيصها فيما يلي: 1- تضافر البعد التمييزي مع البعد الاقتصادي المعيشي العالمي المتمثل في غلاء الاسعار، ناهيك عن الفساد الذي استشرى بعد الوحدة ومورس في مؤسسات الدولة بالجنوب. 2- سياسة الاقصاء والتهميش للجنوبيين ولعل اخطر مظاهرها رفض توظيفهم في الجيش والشرطة والمؤسسات الأمنية التي يهيمن عليها الشماليون. 3- رفض اعادة آلاف المسرحين والمعتقلين الجنوبيين الى أعمالهم ووظائفهم، وشعور الجنوبيين بأنهم باتوا مواطنين درجة ثانية ويفتقدون المواطنة الواحدة المتساوية مع اشقائهم في الشمال. 4- اشتداد توق اليمنيين الى نظامهم السابق (الاشتراكي) وتنامي النزعة الانفصالية المطالبة بتقرير المصير مع تزايد الشعور بالغبن والخسارة من الدمج الذي تحقق.
صحيفة اخبار الخليج
22 ابريل 2008