حمل العالم معه، مع دخوله الألفية الثالثة، تداعيات زلزال العقد الأخير من القرن العشرين الذي قيل عنه إنه القرن الذي بدأ متأخراً وانتهى قبل الأوان! والقصد طبعاً ابتداءً من الثورة البلشفية في العام 1917 وتأسيس الاتحاد السوفيتي في العام 1922 وانتهاءً بتفكّكه في العام 1991 أي فترة ‘’ثنائية القطبية’’ وما تلاها من نشوء الفترة الحالية، الانتقالية (الضبابية) المعروفة بـ ‘’أحادية القطبية’’ المتجسّدة في الهيمنة الأميركية على العالم المعاصر، المُتّسمة بحروب وتدخلات كان الهدف المبكر منها الاستفادة القصوى من فرصة تلك الهيمنة واستثمار ما يمكن استثماره بغية تداوى الجروح البنيويّة للولايات المتحدة الأميركية، العصيّة – أصلا – على العلاج الجذريّ ولو أن الإدارات الأميركية المتعاقبة ونُخبها السياسية الأخصّائية والحِرَفية، ممثلي الصفوة الحاكمة أثبتت قدرتها وحيويتها البيّنتين على إعادة إنتاج مشروعها الليبرالي السائد بشكل دوري وجديد في كل مرة!
لعل منطقتنا العربية والشرق أوسطية كونها واقعة في بؤرة الاهتمام الأكبر للخطط الاستراتيجية الأميركية، ليس بسبب الوفرة النفطية فحسب بل أيضاً كونها تتشكل من أنظمة طاردة للنمط المؤسساتي العصريّ، ذي تركيبة تحتوي على مناعة ذاتية – تاريخيا وجغرافيا – ضد التحديث والتنوير. والمنطقة تعاني من مشكلات متكدسة مزمنة على مختلف الصُّعد، تتجلى في تخلف اقتصادي اجتماعي ثقافي مؤسساتيّ بنيويّ وهيكليّ عام، رغم الغِنى الظاهريّ وكنوز قارون التي تعود ملكيتها لشريحة صغيرة مستبدة، مصابة بتخمة اقتصادية وشحّ ثقافي، الأمر الذي لا يؤهلها للفهم الموضوعي للمتطلبات المُلحّة للمركز والتخوم – على السواء – وضرورة التغييرات الحقيقية المنشودة لاستمرار الحياة السوية في منطقتنا حتى لا تنجر لحروب الطوائف المضرّة للقاصي والداني، عدا لحاملي لواء فكر الإقطاع القديم!
في السنوات الأخيرة، خصوصاً منذ الألفية الثالثة المذكورة بدأ حراك سياسي واضح ولهفة نحو تحريك ركود القرون الماضية في المنطقة العربية، وتحديداً عند تخومها المشرقية المحافظة في دول الخليج وذلك لأسباب عدة لعل أهمها، وجودها بين كماشتي نظامين إقليميين ندّيين، هما النظام الإيراني والعراقي. على اثر التداعيات التي رأتها المنطقة وبات ثقل التغيير العربي في الانتقال شرقا. ترافقت التطورات تلك مع سقوط النظام العالمي الذي كان قائما في فترة القطب الثنائي ونشوء ما أطلق عليه ‘’النظام العالمي الجديد’’ المنبثق من سيطرة القطب الأميركي الواحد وتفرد الولايات المتحدة للنفوذ والسيطرة، المرتكزة أساساً في هذه المنطقة الحيوية المتّسمة بأهمية جيواستراتيجية وجيوبوليتيكية فريدة من نوعها إضافة إلى عنصري الطاقة و’’السوق المفتوحة’’ الكامنة، ذي الأهمية الحياتية لـ ‘’اليانكي’’ ومن هنا تأتي أولويّة التحديث المؤسّساتي لأنظمة الحكم القائمة منذ عهود من وجهة النظر الأميركية وهي الحاجة الموضوعية القصوى التي لم تستوعبها بعد النخب السياسية الفاعلة في بلداننا بمختلف مشاربها من جهة، ولم تتبلور بعد في مشروع أميركي واضح المعالم ومتكامل، من جهة أخرى! حدث هذا بُعيد الحرب العراقية الإيرانية التي عرفت بحرب الخليج الأولى والثانية المعروفة بحرب تحرير الكويت الأمر الذي حدا بالمواطنين والمسؤولين البحث عن صيغ جديدة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم. بل إن بعض دول مجلس التعاون الخليجي حاول إعطاء شيءٍ من الغطاء الشرعي لنظامه السياسي من خلال إجراءات – شكلية – في منطقة لم تعرف أنظمة الحكم فيها أي نوع من المشاركة الشعبية حتى في حدودها الدنيا، عدى الكويت منذ الستينات والبحرين – مبتوراً – في السبعينات. تطورت الأمور سريعاً، بشكل غير مسبوق في البحرين والإمارات وعمان وقطر وحتى السعودية التي شكلت مجلس شورى استشاري. أصبحت الموضوعات المتعلقة بمسألة وأهمية المشاركة السياسية ومحاولة تأسيس المجتمع المدني على لسان المواطنين العاديين والنُّخب السياسية وحتى أجنحة من الصفوة الحاكمة. شهدنا الفعاليات الكثيرة من منتديات وأنشطة وكتابات ومعارض ثقافية وفنية رديفة الخ.. وبمشاركة وتشجيع السلطات الرسمية، محاولة منها التكيف والتكييف مع الوضع العالمي الجديد والاستجابة لمتطلبات روح العصر الملتبس لديها – أصلا- محاولة منها الالتفاف وتحت الضغوطات الهائلة من الداخل والخارج، لانحناءة مؤقتة، آملة – متوهمة – مرور العاصفة وبعد ذلك قد تعود إلى سابق عهدها انطلاقا من القول المأثور، ‘’عادت حليمة إلى عادتها القديمة’’!
تجاذبت – على استحياء – شيء من هذه الأفكار وغيرها في الحوارات (النظرية/ المجردة الطابع) التي تلت المساهمة الثرية التي قدمتها الضيفة الإماراتية الدكتورة ‘’ابتسام الكتبي’’ من خلال محاضرتها في ندوة جمعية ‘’المنتدى’’ يوم الاثنين الماضي، المعنونة ‘’أهمية المشاركة السياسية وقيام دول مدنية في الخليج’’ والمشتملة على المبادئ النظرية العامة الأساسية للديمقراطية الليبرالية في ضرورة الفصل بين السلطات الثلاث والتسامح والمساواة الحقوقية وحرية الرأي والعقائد وكل الأمور المتعلقة بالمفهوم النظري للدولة المدنية الحديثة. انصب الطرح على ضرورة اتخاذ الخطوات الجدية من قِبَل أصحاب القرار، تلخّصت في مفهوم المواطنة المساواتية بين جميع المواطنين إضافة إلى المساواة الجنوسية (المرأة) وضرورة تطوير التشريعات وسيادة القانون من حيث تطبيقها على الكل، آخذين بعين الاعتبار المسافة الشاسعة – حتى الآن – بين السلطة والدولة بين القبيلة والشعب بين الراعي/ الرعية ودولة الرعاية.
في المداخلات هناك من اختزل كل المعوقات في مشكلة الاقتصاد الريعي الجالب للثقافة الريعية المعوقين لأي مشروع إصلاحي، ومن تبحّر في التاريخ الحديث من أن الديمقراطية ليس شرطاً ضرورياً لمفهوم المواطنة الحديثة وغيرها من الأفكار والرؤى المهمة بالطبع، التي في حاجة إلى مقارعة منهجية جادّة. أُثيرَتْ مسألة المعوقات للتغييرات المرجوّة من ناحية أن الحداثة السياسية مازالت شكلية بمحتوى تقليدي، انصبت على الجانب الاقتصادي/ التقنيّ، عصية على التغيير الاجتماعي/ الثقافي. إضافة إلى أن شعار ‘’التدرج في عملية الإصلاح’’ الذي يحمله ويُسوّقه النظام العربي الرسميّ هو في الواقع، كلمة حق يراد بها باطل! ولكن لم يتطرق أحد إلى آليات العمل وتفعيل هذا الشأن النظري إلى عمل واقعي واضح على الأرض. ومَن هي القوى المؤهلة لهذه العملية التاريخية الصعبة؟ أسئلة عدة تتعلق بحياتنا وبمستقبل الأجيال المقبلة.
صحيفة الوقت
21 ابريل 2008