ما من مفردتين لغويتين شائعتين في كلام العامة ارتبطتا بمعيشة الانسان العربي وحياته الغذائية كمثل ارتباط الارز والرغيف، حتى لتكادان أنْ تتنافسا في الدلالة اللغوية والرمز على غذاء الانسان بأكمله، وعلى وجه الخصوص في التعبير عما يسد الرمق منه. ولأنهما كذلك أضحت كلتا المفردتين يُطلق عليهما لدى الشعوب التي تعتمد اعتماداً رئيسياً في حياتها الغذائية على أي منهما، أو كلتيهما، “العيش” للدلالة على ارتباطهما بحياة الانسان المعيشية. وهكذا نجد هذا المسمى يطلق على الخبز في مصر فيما يطلق على الارز في معظم او كل بلدان الخليج العربي. و”العيش” بمعنى الرغيف من الالفاظ العامية الفصيحة، وربما تعد مصر من أكثر البلدان العربية التي يشيع فيها على لسان العوام هذه المفردة بمعنى الخبز. فالعيش في معاجم اللغة، وعلى رأسها لسان العرب، تعني الحياة، عاش يعيش عيشاً ومعيشة، وهي تعني الخبز او الرغيف، كما اسلفنا، لكن من الجائز ان تعني أي مادة غذائية او سلعة يعتمد عليها الانسان اعتماداً اساسياً في حياته المعيشية، فيمكن ان يطلق على التمر “عيش” او اللبن او ما شابه ذلك. وبالتالي فمن الجائز اطلاقه على الارز كما هو الحال في اللهجات الخليجية كما ذكرنا. والعيش هو المطعم والمشرب وما تكون به الحياة. وقيل في الامثال العربية: انت مرة عيش ومرة جيش، أي تنفع مرة وتضر اخرى. على ان الخبز المستخرج من طحين القمح هو من اكثر الغلات الزراعية في ارتباط حياة الانسان بها غذائياً منذ القدم. وفي هذا الصدد ينقل عن امرأة من اهل الشام قولها: اتهدي لي القرطاس والخبز حاجتي وأنت على باب الأمير بطين؟ فأنت ككلب السوء في جوع أهله فيهزل أهل الكلب وهو سمين وينقل عن جورج ميريديث قوله: “كسرة الخبز ليست شيئاً مهماً لكنها كل شيء بالنسبة الى متشرد يتضور جوعاً”. وظل الخبز او الرغيف في كل الثقافات الشعبية الانسانية مادة للتعبير عن حياة الانسان المعيشية ورمزا لغذائه الأساسي الضروري مثلما هو رمز لانتفاضات وثورات الشعوب احتجاجاً على بؤس حياتها المعيشية، ولعل من اشهر الطرائف التي تنقل عن ارتباط الخبز بالثورات ما نقل عن الملكة الفرنسية ماري انطوانيت في تعليقها الأبله حينما سمعت صرخات الثوار المنتفضين خارج القصر ضد تدهور احوالهم المعيشية وانعدام الخبز او غلاء اسعاره فسألت علام هتافاتهم؟ فقيل لها انهم يحتجون لعدم حصولهم على الخبز، فردت: “ولماذا لا يأكلون البسكويت عوضاً عن الخبز؟!”. وثمة امثال عربية وشعبية عديدة عن الخبز لا يتسع المقام لتناولها في هذه العجالة، هذا بخلاف ما نظم من الكثير من الشعر الفصيح والشعبي حول الرغيف سواء لما يرمز إليه من دلالة على الحياة المعيشية او للدلالة على الجوع في حالة شحته او غلاء سعره. ومن القصائد اللاذعة في هجاء جشع التجار المتسببين في غلاء الاسعار قول الشاعر الشعبي المصري أحمد فؤاد نجم: تاجر نزل سوق غزاله مع الدلال قرب يدوق العسل نهر الدموع شلال شرب عديم التنا من دمعنا المسفوح زاد في السعار والغِنَا من خسة الدلال إخص إخص إخص.. على كده وقوله في قصيدة اخرى بعنوان “الشحاتين”: وغني القوم ومولاهم لا يمنح شيئاً إياهم غير الترحيب برؤياهم جوعى والجوع أبو الكفر فيضيع الحب المكنون ويشيع الحقد المجنون ويذاع السر المدفون بفضائح سكان (…) ولعل هاتين السلعتين الغذائيتين، الأرز والرغيف، هما في مقدمة السلع التي ارتفعت اسعارها في البلدان العربية ومعظم بلدان العالم على نحو اضر واثر في الحياة المعيشية للسواد الاعظم من شعوب تلك البلدان وعلى الأخص الطبقات الفقيرة والمعدمة. وقد ادى ذلك في عدد من اقطار العالم، كمصر واليمن وهاييتي، الى تفجر انتفاضات واحتجاجات اجتماعية عارمة صارخة، وذلك لعجز دخول ومرتبات هذه الطبقات عن مجاراة ارتفاع سعرهما او التكيف معيشياً مع هذه الارتفاعات المتضاعفة. ومن المفارقات الساخرة ان صندوق النقد الدولي المعروف بدوره في السياسات النقدية التي تؤدي إلى التضخم وغلاء الاسعار بالبلدان النامية قد حذر مؤخراً من ان مئات الملايين معرضون للموت جوعاً إذا ما واصلت اسعار المواد الغذائية في الارتفاع، وان الاضطرابات الاجتماعية والحروب ستجتاح العالم.
صحيفة اخبار الخليج
19 ابريل 2008