نبدأ هذه المرة بالتوقف عند لغة الأرقام، وهي أرقام ليس فيها تلاعب أو ضبابية أو تضليل، فهي أرقام منشورة ومعلومة للجميع وصادرة من أطراف رسمية، ونرى بأن هذه الأرقام يجب ألا تمر دون التوقف لأنها حافلة بالدلالات والمعاني التي يمكن أن تشمل أساساً كل من يجتهد في محاولة فهم ما يجب فهمه، والمؤسف أنها إجمالاً تثير الأسى والمواجع، وإن حاول البعض أن يثبت لنا عكس ذلك.
نلملم هذه الأرقام ونلقي الكرة في مرمى من هم معنيون بالتحليل والتشخيص، وفي مرمى من يفترض أن ينهضوا بمسؤولياتهم وواجباتهم:
٠٠٠٠١ مواطن حجم الدفعة الأولى لمستحقي إعانة الغلاء.. ووزيرة التنمية الاجتماعية بشرتنا بأن هناك قائمة أخرى في الطريق تشمل ٣٢٩٩ مواطناً! الوزيرة في تصريح آخر تزف لنا البشرى من جديد لتعلن بأن هناك أربع قوائم أخرى في الطريق! أما هيئة الحكومة الإلكترونية فقد أعلنت في ٢٢ مارس الماضي عن أسماء ٨١٧٣٢ من المستحقين من أرباب الأسر البحرينية في خطوة بالغة الإذلال والاستفزاز واهانة الناس.
تلك الأرقام التي يجب ألا نستهين بها تخص فقط الجانب المتصل بعلاوة غلاء المعيشة.. ويمكن أن نضيف بالنسبة لهذا الموضوع استنتاجاً بأن إجمالي عدد القوائم الكلية للمستحقين للعلاوة من أرباب الأسر المعلن عنها رسمياً حتى الآن هو أكثر من ٠٤ ألفاً على أقل تقدير، ذلك بخلاف القوائم التي في الطريق بعد استكمال أصحابها بياناتهم، علاوة إلى الجاري تسجيلهم حالياً في المراكز المعلن عنها، وبحسبة بسيطة بشأن عدد أصحاب الأسر التي بحسب المنظور الحكومي تستحق علاوة الغلاء سنتوصل إلى نتيجة مذهلة ومفجعة، خاصة اذا افترضنا أن متوسط عدد الأسرة البحرينية الواحدة يتكون على أقل تقدير أيضاً من ٤ أفراد، ولكم أن تضربوا أخماساً في أسداس لتصلوا إلى نتيجة حتمية لها دلالاتها التي لا تخفى لا على ذوي البصر ولا البصيرة.
ومن يتابع المشاهد تباعاً قد يتوقف في مجال آخر عند أرقام أخرى أيضاً لها دلالة، أرقام تكشف ان المستحقين لإعانة التأمين ضد التعطل حتى نهاية الربع الأول من العام بلغوا ٢٧١٣١ مواطناً، منهم ١٨٢٢ من الجامعيين، في حين بلغ عدد طلبات المسجلين على قائمة انتظار صرف مبلغ الضمان الاجتماعي لدى وزارة التنمية الاجتماعية ٠٠٠٣ طلب، وأن المعدل الشهري للطلبات الجديدة بلغ ٠١١ طلبات.
تلك الأرقام وغيرها كثير من نفس العينة يصر البعض على أنها تعكس جهود الدولة في النهوض بعبء المجتمع، وهي وجهة نظر نحترمها، ولكن لنا عليها تحفظات مردها قناعتنا بأن تلك الجهود لم تكن على قدر التحديات المعقدة، وهذه نقطة أساسية وجوهرية وبأن تلك الأرقام تعبر في أحد أوجهها عن واقع لا يسر لأنها دالة على مؤشرات اتساع دائرة العوز والحاجة والفقر، وهي دائرة باتت تتسع وتأخذ منحى يجب التنبه له في ظل الأزمات والظروف المعيشية السيئة التي ازدادت سوءاً بفعل التضخم والأسعار التي انفلت لجامها، وجعلت محدودي الدخل بل ومكسوري الظهر والطبقة الوسطى في تراجع وانكسار مستمرين، وأصبح مصيرها متروكاً تماماً لعناية القدر في غيبة رؤية واضحة وسياسات فاعلة تعالج الأزمات والظروف الراهنة قبل أن تستفحل وتتفاقم أكثر، ولو أن لدينا جهة تخطط وتتابع وترصد وتحلل لربما أدركنا أن الأمور تسير بخطى ثابتة إلى الأسوأ ثم إلى الأسوأ ثم إلى الأكثر سوءاً اذا ما استمر التعاطي مع مشاكل المجتمع من باب التسطيح وإبراء الذمة..!
لقد آن الأوان أن نسمي الأشياء بأسمائها وأن نعير الاهتمام الكافي لتصحيح الاختلالات التنموية والاجتماعية، وما تذبذب المصطلحات فيها بيــــن “إعانة” و”معونة” و”مساعدة” و”منحة” وأخيراً “علاوة” للخمسين ديناراً التي استحقت للآلاف من أرباب الأسر البحرينية، إلا أحد أوجه القصور في أساليب العمل في جميع الميادين، بما في ذلك التعاطي مع مسألة تصحيح هذه الاختلالات، إن وجد هذا التعاطي أصلاً، بدليل أن مفاهيــــــــم “العدالة الاجتماعية” و”الأمن الاجتماعي” وبمعزل عن المبادئ النظرية لم تتسرب إلى الخطاب الرسمي حتى الآن، وما نراه ونسمعه ونقرأه يثبت أن هذه المفاهيم لم تتبناها أي من الشعارات الطنانة والحذلقات الفكرية التي كانت تطرح أو تثار بمناسبة ومن دون مناسبة من قبل من يفترض أنهم معنيون بالأمر.أ ول ما يجب أن يفهمه هؤلاء المعنيون بالأمر أن هناك ضمانات دستورية لتحقيق العدالة الاجتماعية، بل إن الدستور نص صراحة على أن الاقتصاد الوطني أساسه العدالة الاجتماعية التي تحقق الرخاء للمواطنين، ومن وحي ذلك الاعتبار فإن المواطن رغم أنه يئن تحت وطأة تكاليف المعيشة لا يحتاج إلى إعانة أو مساعدة أو إغاثة أو منحة قدر حاجته إلى عدالة اجتماعية، وهذه العدالة لا تعني زيادة في الرواتب فقط، ولا المحافظة على دعم بعض السلع الأساسية، واذا استمر الوضع مقصوراً على هذه النواحي فسنظل نحرث في البحر.
إن العدالة الاجتماعية تأتي من خلال سياسات اقتصادية وتنموية فاعلة تركز على اقتصاد منتج ومواطن منتج، وقدرة تنافسية وتنمية مستدامة توفر للمواطن السبل التي تمكنه من العيش حياة كريمة ترفع من مستوى معيشته، وهي مسألة يجب أن ترتبط بالتخلص من الأمراض المجتمعية المرتبطة بلعبة المصالح الضيقة والمرهقة للمجتمع، ولا بد هنا لاكتمال المشهد من كبح فلتان الفساد المتعاظم والمتمادي والمعرقل الأول للنمو الاقتصادي، وهي قضية يجب أن تتصدر أولوية أي رؤية اقتصادية وتنموية.
نريد باختصار سياسات لا تكبل الاقتصاد بانعدام العدالة بمعانيها وتوسع من الطبقة المتوسطة وتعالج تزايد الهوة والفجوة بين الثراء الفاحش والفقر المدقع، وتوزع ثمار التنمية بشكل سليم على المواطنين، وتنطلق من قناعة بأنه لا خير في نمو أو تنمية لا يستفيد منها المواطن.
صحيفة الايام
18 ابريل 2008